الارتقاء بالخدمات المصرفية الخاصة

22:47 مساء
قراءة 4 دقائق

فرنسوا فرج الله *

يقف قطاع الخدمات المصرفية الخاصة في دول مجلس التعاون الخليجي، أمام مرحلة تحولية هامة. إذ لفترة طويلة جداً، هيمن التشابه على أروقته العليا. ففي غرف الاجتماعات تتردد وجهات النظر نفسها، باللهجة نفسها، وعلى مسامع العملاء أنفسهم. ولكن، في دول مجلس التعاون الخليجي، يتحدث الثراء لغاتٍ متعددة، من العربية والأردية، إلى الفرنسية والروسية والماندرينية. وعلى غرار دول مجلس التعاون الخليجي التي تضم نسيجاً متنوعاً من الثقافات، والأجناس، والأعراق، والمعتقدات، والتطلعات، ينبغي أن يعكس فريق عملنا هذا التنوع الثري. فمن الداخل، من خلال احتضان هذا التنوع الذي يميّز المنطقة التي نخدمها، تنطلق مساعينا لتحقيق أقصى إمكانات قطاع الخدمات المصرفية الخاصة.

وعلى الرغم من كل ما كُتب ونوقش حول التنوع في السنوات الأخيرة، إلا أنه وحده لا يكفي، ولا ينبغي أن نتوقع منه تحقيق نقلة نوعية فورية في أداء الخدمات المصرفية الخاصة. إن التنوع وحده، رغم أنه أساس متين، قد يعود بنتائج عكسية في غياب الاندماج، وهذا يعني خلق بيئة تتواجد فيها الآراء المتنوعة، من دون أن تُحترم، ما قد يؤدي إلى شعور بالنفور والتهميش لدى الموظفين. فالاندماج هو الذي يُطلق العنان لقدرات القوى العاملة المتنوعة، حيث يضمن طرح الأفكار وسماع وتقدير وتعزيز جميع الأصوات بكل تنوعها.

يجب ألا يتم التعامل مع تعزيز التنوع والاندماج كمهمة هامشية أو ثانوية. إذ إن خلق بيئة عمل متنوعة ومنصفة يتطلب جهوداً حثيثة ومستمرة تتجاوز تطبيق سياسات الموارد البشرية، أو توجيهات الإدارة العليا. فمن إعادة صياغة وصف الوظائف، وتشكيل لجان المقابلات الشاملة، وبرامج التوظيف المستهدفة، إلى تدريبات التغلب على التحيز اللاواعي، ومبادرات الإرشاد وترتيبات العمل المرنة، يتطلب الأمر تحولاً حقيقياً في الثقافة التنظيمية والنسيج الأساسي لمؤسساتنا.

لا يُعد تنوع القوى العاملة واندماجها في قطاع الخدمات المصرفية الخاصة مجرد مسألة شكلية، بل يمثلان ركيزة أساسية لنجاح المنظمة وقدرتها على الصمود، ولهما دور رئيسي في بناء مجتمع عادل، يستند إلى الكفاءة. وبالفعل، أثبتت الأبحاث جدوى التنوع والاندماج من الناحية التجارية، ففي دراسة أجرتها مؤسسة «As You Sow» على 1641 شركة أمريكية مساهمة عامة بين عامي 2016 و2022، لوحظ ارتباط إيجابي بين إدارات الشركات المتنوعة وأدائها المالي.

ويتجلى تأثير التنوع والاندماج في تحسين المقاييس المالية، ويمتد بمفاعيله داخل المصرف الخاص، وخارجه أيضاً. فعلى وجه الخصوص، يساهم خلق ثقافة مؤسسية منصفة في جذب واستبقاء الأفراد المهرة من مختلف الخلفيات، ما يؤدي إلى بناء مجموعة مواهب، أقوى وأكثر تنوعاً، تشعر بالإنجاز والرضا. بدورها، تجلب هذه القوى العاملة وجهات نظر متعددة إلى طاولة العمل، ما يغذي الإبداع ويتحدى التفكير التقليدي، ويصوغ حلولاً مبتكرة تناسب الأغراض. فكّر في نماذج إدارة الثروات المدعومة بالذكاء الاصطناعي والمدربة على مجموعات البيانات التي تشمل هياكل المكاتب، العائلية الإقليمية، والتي صممها مصرفي أردني خاص نشأ في سويسرا، أو محافظ استثمارية متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، تديرها امرأة إماراتية، لديها إلمام عميق في تعقيدات الشريعة ومتطلبات مكاتب العائلة الإماراتية. وفي قطاع سريع التطور يزدهر بالتكيُّف، يصبح هذا التنوع ضرورة لا غنى عنها، حيث يضمن مواكبة عروضنا لأحدث التطورات. كما أن الأخذ بوجهات نظر مختلفة يمنع الوقوع في ما يُسمى ب«التفكير الجماعي»، وهذا بدوره، يؤدي إلى اتخاذ قرارات أفضل، وأكثر استنارة.

وتُثري القوى العاملة المتنوعة علاقات المصرف الخاص مع عملائه، وتساهم في بناء روابط قوية قائمة على الثقة والتفاهم المتبادل، داخل وخارج المؤسسة. تصور، على سبيل المثال، رجل أعمال سعودياً يلتمس الحصول على إرشادات بشأن أعماله العائلية، يجد الطمأنينة في التعامل مع مدير علاقات يشاركه قيمه الثقافية، وفطنته التجارية، أو شابة قطرية من كبار المستثمرين، تشرع في رحلتها المالية، وتجد التوجيه والثقة بمستشارة تفهم خلفيتها، واعتباراتها، وطموحاتها. ورغم كونها مجرد حكايات فردية، لن تتحقق هذه النجاحات من دون وجود قوى عاملة تعكس التعددية الثقافية لعملائنا، وتتمكن من فهم خلفياتهم وتقديم حلول مصرفية مخصصة تتناغم معهم على المستوى الشخصي.

ختاماً، لا بد من التأكيد أن تعزيز قوى عاملة متنوعة ومنصفة يتجاوز الفوائد الاقتصادية والممارسات التجارية الناجحة، فهو واجب أخلاقي يجسد مبادئ تكافؤ الفرص، والإنصاف، والمساواة، بغضّ النظر عن الجنس، أو الجنسية، أو الأصول العرقية، أو العمر.

في عالم الخدمات المصرفية الخاصة، ولا سيما في بيئة الخليج العربي الغنية ثقافياً، يصبح تبنّي الأبعاد الثقافية التي حددتها إيرين ماير، في كتابها «خريطة الثقافة»، أمراً بالغ الأهمية. فإن فهم هذه الأبعاد والتكيّف معها، بدءاً من أنماط التواصل إلى نُهُج القيادة وعملية صنع القرار، أمران أساسيان لتعزيز بيئة شاملة ومتكاملة. ولا يكفي امتلاك فريق متنوع، بل يجب أيضاً تنمية قوة عاملة قادرة على التعامل مع الفروق الثقافية الدقيقة لعملائنا وزملائنا. ومن خلال دمج رؤى ماير، يمكننا ضمان تناغم استراتيجياتنا وتفاعلاتنا مع الثقافة، ما يعزز كل من العمل الجماعي الداخلي، وقدرتنا على تقديم علاقات مصرفية شخصية حساسة ثقافياً.

* رئيس منطقة الشرق الأوسط في «إي إف جي إنترناشيونال»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mdu8pd3y

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"