تشهد المنطقة العربية منذ عقود من الزمن حروباً ومعارك متعدّدة، بعضها كلاسيكي وكثير منها وجودي وحضاري وهوياتي؛ وإذا كان العنوان الأبرز للمواجهات العسكرية هو سقوط أعداد هائلة من الضحايا، المتزامن مع سفك دماء الأطفال والنساء والشيوخ، في سياق مشاهد مرعبة تقشعر لها الأبدان، فإن الحروب غير التقليدية الهادفة إلى تغيير قناعات الأفراد وأفكارهم والتأثير في تصوراتهم، وأسلوب مقاربتهم لقضايا الأمة وشعوب المنطقة، تمارس فعلها عبر وسائط اللغات الطبيعية والخوارزميات الرقمية، من أجل محاولة تشكيل وعي جديد قادر على قبول تمثلات قائمة على احتقار الذات والطعن في مشروعية الهوية الثقافية والحضارية المشتركة والجامعة، لكل المجتمعات من المحيط إلى الخليج.
وتعتمد هذه الحروب غير التقليدية على الكلمات في تجلياتها المسموعة والمرئية، فاللغة كما يقول المتخصصون تسمح بالتفكير ومن ثم بالكلام؛ واختيار الكلمات والمصطلحات لا يمكنه أن يكون بريئاً ولا محايداً، لأن الكلمة تحوّل الواقع من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل، وتجعله حياً وحاضراً، وبالتالي فإن الكلمة تفرض فضاءاتها وتاريخها وأسلوب تصورها، والقول هو بشكل من الأشكال إبداع للعوالم ومحاولة لإدخال المتحاورين معنا بداخلها.
يقول الباحث جان باتيست نوي، إن الحديث عن الشام، عن الشرق الأوسط، وعن العالم العربي ليس أمراً محايداً، فكل كلمة تشير إلى واقع مختلف، ليس هو نفسه الذي تشير إليه كلمات أخرى تخلق فضاءً ذهنياً مغايراً، وعندما نستعمل كلمات أجنبية، فإننا نجعل من مفاهيم غيرنا مفاهيم لنا. وبالتالي فإنه ليس من الغريب أن كلمات مثل الشهداء والوطن العربي والأمة الإسلامية، ليست لها لا المعنى ولا الوقع نفسه مقارنة بكلمات تقابلها مثل القتلى، العالم العربي أو العالم الإسلامي. وعندما نتحدث عن الشرق الأوسط كبديل عن التسميات الأخرى، فإننا نقبل ضمنياً باستبعاد عناصر الهوية العربية والإسلامية للمنطقة.
لن نذيع سراً في هذا السياق عندما نقول، إن الإنسان كائن رمزي بامتياز، وذلك ما يجعله مستعداً للتضحية، وإلى بذل جهود مضنية للحصول على مكاسب رمزية، لا يمكن قياسها بفوائدها وخصائصها المادية المباشرة. وعليه فإن اختلاف الإنسان عن باقي المخلوقات الأخرى، تجعله كائناً قادراً على استبدال الأشياء الواقعية برموزها؛ وتكون الرموز في الكثير من الحالات أكثر قيمة من نسخها المادية، ويتحدث عالم السيمائيات الروسي يوري لوتمان عن هذا البعد الثقافي والرمزي للإنسان بكثير من الإسهاب، وبالاعتماد على نصوص إبداعية مستوحاة من الثقافة الروسية.
ويمكننا أن نتحدث أيضاً في هذا السياق، كما يشير إلى ذلك سيرج حاليمي، عن حروب الكلمات التي تتحوّل إلى فن من فنون التشهير والقذف السياسي لمنع الخصوم من التأثير في الجمهور، ولجعل خطابهم غير قابل للتداول بناءً على قاعدة شيطنة الآخر، واتهامه بتهم أخلاقية واهية، لا تستند إلى أي أسس موضوعية. وعندما يتم الآن، في سياق النقاش السياسي الغربي، اتهام معارضي السياسة الإسرائيلية الإجرامية في المنطقة العربية بمعاداة السامية، فإن ذلك يدخل في سياق استراتيجية تهدف إلى تدمير الآخر، واغتياله سياسياً كما يحدث الآن في فرنسا مع شخصيات سياسية مرموقة مثل جون لوك ميلونشون ودومينيك دوفيلبان وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، حيث تهدف الآلة الإعلامية إلى إسكات كل الأصوات التي ترفع صوتها، من أجل انتقاد سياسة الإبادة في فلسطين، والتدمير في لبنان.
وعلاوة على ما تقدّم فإن حروب الكلمات والرموز، لا تقف عند هذا الحد، بل إنها تشمل في أحايين كثيرة العمل على تشويه الحقائق، والتلاعب بالتاريخ، والأمثلة على ذلك كثيرة، ويمكننا أن نقدم بشأنها مثالاً توضيحياً مأخوذاً من التاريخ الغربي المعاصر، فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، واستسلام ألمانيا النازية قام المعهد الفرنسي للرأي العام بطرح سؤال على عينة من المواطنين الفرنسيين مضمونه: من هي الأمة التي كان لها الإسهام الأبرز في إلحاق الهزيمة بألمانيا، وكان جواب أكثر من 80 في المئة منهم في شهر مايو/أيار من سنة 1945، أن الاتحاد السوفييتي لعب الدور الأبرز في إضعاف واستنزاف ألمانيا. بيد أن التاريخ الرسمي للدول الغربية ركّز لاحقاً على الإسهام الأمريكي في انتصار الحلفاء، وعملت الدعاية الهوليودية بعد ذلك على تضخيم دور الجيش الأمريكي على الرغم من الهزائم المذلة التي تلقاها على يد الجيش الياباني.
ومن الواضح أننا في محيطنا العربي الراهن، نعيش لحظة امتزاج حروب الكلمات بحروب الدم التي تُسفك فيها دماء الأبرياء؛ وبعد أن جرى تدجين الكلمات وجعل دلالاتها باهتة، يتم الآن تسفيه وتبسيط القتل، وتحويل أعداد الضحايا إلى أرقام صماء من دون روح. وسيكون من ثمة ممكناً للغرب تشويه الحاضر حتى قبل أن يتحوّل إلى ماض، مع العمل على صياغة سرديات تساوي بين الضحية والجلاد، وتتحدث بالتالي عن حق المحتل في «الدفاع عن نفسه»، وعن حقه في تدمير البشر والحجر واستفزاز اللبنانيين بالقول لهم سندمركم كما دمرنا غزة، وذلك كله بهدف تبرير حروب القتل والإبادة، وإقصاء كل ما هو مختلف ومغاير، وتمزيق الهويات الجماعية، وخلق ذوات مُغفلة، تتساوى لديها الأنوار والظلم.
[email protected]
https://tinyurl.com/2bavr266