تذهب تحليلات وتعليقات كثيرة، في المنطقة وخارجها، إلى أن الحروب الحالية ستؤدي في النهاية إلى «إعادة تشكيل الشرق الأوسط»، بمعنى بروز نظام إقليمي جديد يحل محل النظام الذي تخلخل نهاية القرن الماضي بعد اجتياح العراق للكويت ثم حرب غزو واحتلال العراق.
ليس مثل هذا التوقع بجديد، بل نسمعه ونقرأه ربما منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق والمعسكر الشرقي بداية العقد الأخير من القرن الماضي. فمنذ ذلك الحين تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز دور القوة العظمى الوحيدة في عالم أحادي القطب ضمن تحالف غربي تقوده فيما وصف بأنه «نظام عالمي جديد».
لا يزال العالم منذ نحو ثلاثة عقود في مرحلة انتقالية بين نظام قديم ثنائي القطبية ومحاولة تشكيل نظام جديد أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة أو متعدد الأقطاب تلعب فيه قوى صاعدة دوراً قيادياً أيضاً. وكما كانت منطقتنا ساحة ساخنة تجري فيها أغلب صراعات الحرب الباردة بين الشرق والغرب، نالت أيضاً القدر الأكبر من اضطرابات هذا الانتقال الممتد حتى الآن.
كان الدعم الأمريكي والغربي للأصولية الدينية في المنطقة، ثم تمكين الإرهاب من تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات المتطرفة الخارجة من عباءة تنظيم الإخوان عاملاً أساسياً في إبقاء المنطقة في قلب غليان التحول إلى نظام عالمي جديد. ثم كانت حروب أفغانستان والعراق وتدمير البلدين على يد قوى الغزو والاحتلال، ما أدى إلى صعود تشظيات ميليشياوية على أسس عرقية ومذهبية طائفية. وساهمت محاولات قوى إقليمية، في استغلال تلك الأوضاع لتعميق التشرذم والعنف المسلح والإرهاب.
إن دولة الاحتلال في فلسطين سعت أيضاً للاستفادة من إبقاء جذوة النيران الطائفية والمذهبية والإرهاب والحروب الأهلية مشتعلة بما يلهي الجميع عن القضية التي كانت مركزية: القضية الفلسطينية. ومع بداية القرن الحالي، برزت مقولة «الفوضى الخلاقة» في المنطقة على لسان المسؤولين الأمريكيين، بمعنى أن الغزو والاحتلال والحرائق والدمار في العراق وغيره عملية «إبداعية» ستؤدي في النهاية إلى «إعادة تشكيل الشرق الأوسط» كمقدمة لنظام عالمي جديد!
بلغ الأمر ذروته في الانتفاضات الشعبية في عدة دول بالمنطقة تحت مسمى «الربيع العربي» لأسباب حقيقية تدعو للغضب الشعبي، لكن «ركوب» انتهازيين مثل تنظيم الإخوان ودعم الأمريكيين والغرب لتلك التيارات الأصولية أدى إلى اشتعال النيران في عدد من دول المنطقة من سوريا إلى ليبيا لينتهي بها الأمر في حالة شبه انهيار. ولا شك أن كل تلك التفاعلات السلبية كانت لمصلحة إسرائيل بشكل أو بآخر كمستفيد من كل تطور يقلل من الاهتمام بقضية فلسطين والاحتلال. ومع الوضع الحالي من تونس ومصر إلى اليمن والسودان تصور الاحتلال أن القضية الفلسطينية انتهت ولم يبق سوى «حل نهائي» لمشكلة «السكان الفلسطينيين» في فلسطين المحتلة وتحقيق أهداف التوسع الاستيطاني.
ثم جاءت موجة الصراع الأخيرة، والتي تم وضعها في إطار صراع إسرائيلي/أمريكي مع إيران وميليشيات تابعة لها في المنطقة، لتكمل هذا المسار المستمر منذ عقود بمحاولة وضع أهم لبنة في «نظام عالمي جديد» بمنطقتنا في سياق «إعادة تشكيل الشرق الأوسط».
فما مدى إمكانية تحقيق ذلك؟ وهل فعلاً تتجه المنطقة نحو هدوء وسلام أياً كانت نتيجة الحروب الحالية؟ أم أننا سنشهد فشلاً كما حدث في السابق مع «الفوضى الخلاقة» و«التدخل الاستباقي» وغيره من الممارسات الأمريكية/الغربية!
بالتأكيد لن يكون الشرق الأوسط بعد فترة وجيزة مثلما كان قبل أكثر من عام، لكن من الصعب القول إنه سيكون أكثر هدوءاً وأقل عنفاً وأفضل بشكل عام. ومن يطرحون ذلك يستندون إلى أن القضاء على مقامي إسرائيل في فلسطين ولبنان واليمن والعراق سينهي الحروب وأعمال العنف ويدفع باتجاه تسويات سياسية على أسس سلمية بما يسمح بالالتفات للتنمية وإنهاء الصراعات.
لكن التاريخ، بقديمه وحديثه ومعاصره، يخبرنا بغير ذلك. ولا مجال هنا لتفاؤل أو تشاؤم، إنما محاولة للفهم كي تكون توقعاتنا للمستقبل منطقية بلا مبالغة أو تفكير بالتمني. فالتجربة مع الجماعات العقائدية والأصولية أنها لا تختفي بالحسم العسكري والأمني، بل على العكس تتشظى بلا رؤوس وتصبح عناقيد عنف متفرقة يصعب التعامل معها.
حين تعرض تنظيم الإخوان للضغط في ستينات القرن الماضي تشظت منه جماعات شبابية مثل الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وغيرها، وأصبحت أكثر عنفاً ودموية من الجناح السري المسلح للإخوان. ومع ضرب القاعدة في باكستان وأفغانستان تشظت إلى داعش والنصرة وغيرهما من الجماعات الأكثر عنفاً وإرهاباً التي تتجمع الآن في إفريقيا جنوب الصحراء والساحل. وهكذا.
إن استمرار الاحتلال سيعني استمرار المقاومة، فحتى بعيداً عن فلسطين وإسرائيل لن تؤدي الحرب الحالية سوى إلى مزيد من التشظي والعنف والدمار الذي قد تتسع رقعته، فهل هذا هو تشكيل الشرق الأوسط الجديد؟
[email protected]
https://tinyurl.com/36wrmk7p