القراءة حَمْلٌ والكتابة ولادة

00:00 صباحا
قراءة دقيقتين

* ما من كتابة عظيمة إلّا وَبُنِيَتْ على قراءات كبرى في الحضارات والأسطورة والتاريخ.. علوم الطبيعة، علم الأرض، علم النبات، المعمار، الآثار، الفولكلور، الرحلة، السيرة الذاتية، أدب الاعتراف.. كل ذلك ينابيع للكتابة، وكل نبع يؤدي إلى نهر. كل نهر ذاهب إلى بحر. الكتابة بحر. ماء يجري في كيان الكاتب. القراءة هي الماء.. الكتابة وصف الماء..
* تقول الروائية سوزان سونتاج: «أقرأ كثيراً في تاريخ الفن، وتاريخ العمارة، وعلم الموسيقى، والكتب الأكاديمية في كثير من المواضيع، والشعر. الشروع في الكتابة مسألة توقف. توقّف عن القراءة أو الاستماع إلى الموسيقى التي تحفّزني بقدر ما تجهدني. تشعرني بالذنب أنني لا أكتب»، وتقول في مكان آخر: «لا أهتم نهائياً بالكتابة عن أعمال لا تعجبني».
أنطونيو غرامشي مفكر غارق في الأيدلولوجيا حتى أعلى رأسه، لكن، حين يعود المفكر إلى ذاته الطفولية، تراه يكتب كما يرسم الطفل. خطوط بالطول، وخطوط بالعرض، ولا قيمة للأبعاد والزوايا والعمق والضوء.
* في رسالة إلى امرأة اسمها تانيا ربما هي زوجته يكتب غرامشي: «عزيزتي تانيا. أُقادُ من قِبَلِ نفسي منذ زمن طويل. ولقد قدرت نفسي بنفسي مذ كنت طفلاً. لقد بدأت العمل مذ كان عمري إحدى عشرة سنة بأجر قدره تسع ليرات في الشهر.. ما يعني من منظور آخر كيلو من الخبز يومياً».
* أرهقتني قراءة (بول ريكور) في كتابه (الذات عينها كآخر).. ليس المهم عدد صفحات الكتاب: 700 صفحة من القطع الكبير، بل الكتاب فلسفة مركّزة: إن (الإمبريقي هو التجريبي)، وإن (الإبستمولوجي هو المعرفي). عليك أن تركض وراء المفاهيم والمصطلحات، ومع ذلك يحفّزك (ريكور) على الكتابة. إن شيئاً من الماء والشعر في فلسفته. صحيح أنه مركّز، ولكن يمكن تخفيفه ببعض الماء. مثلاً يقول: «من أكّد على شيء فقد قال شيئين». إن الجسد أهم ما في كتاب ريكور هذا. كتاب غامض، ولكنه يصبح واضحاً مثل عين الشمس حين تصبر قليلاً على القراءة.
* ظننت أنني سأقرأ كتاباً شعرياً تماماً حين ذهبت إلى (جان لوك ماريون) في كتابه (ظاهرة الحب). الكتاب ستة تأمّلات فلسفية مركّزة هي الأخرى، لكن لا تنسَ الصبر على القراءة. يركّز (ماريون) على مصطلح يتكرر في الكتاب عشرات المرّات، إنه مصطلح (الاختزال الغرامي).
يلجأ (ماريون) إلى ما يمكن أن يُسمّى (الإشباع). يكرر المصطلح لكي يشبعك تماماً. يحوّل القارئ إلى إسفنجة. وفي الوقت نفسه يفتح شهيته على الكتابة..
مرة ثانية وثالثة. القراءة حصان، والكتابة عربة، وأنت بالمنطق لا تضع العربة أمام الحصان.
ثنائية جميلة تلك التي تسبق الكتابة فيها القراءة. كأن القراءة حَمْلٌ، والكتابة ولادة..

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/sj4sxvub

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"