رسم بابلو بيكاسو لوحة «الجرنيكا» في 35 يوماً كما تذكر هذه المعلومة بعض مصادر حياته، غير أنه لم يتحدث عن اللوحة في الكتاب الذي وضعته فرانسواز جيلو، تلك الصبية الشابة التي تزوجها وهي في الحادية والعشرين من عمرها، فيما كان هو في السبعين، ومع ذلك، استمر الزواج نحو عقدين من الزمن، وأنجبت منه طفلين، ثم خرجت من «مؤسسة» الفنان العالمي (المجنون).. بسلام.
كانت القوات الجوّية الألمانية والإيطالية قد قصفت قرية الجرنيكا الواقعة في إقليم الباسك شمال إسبانيا في 26 إبريل/نيسان 1937، وصادف ذلك اليوم الذي كان (الاثنين) يوم تسوّق للآلاف من الإسبان، ويقال إن الطيارين الذين قصفوا المدينة تلقوا تعليمات من قادتهم بأن يسمعوا موسيقى فاغنر في أثناء أداء مهمّات القصف التي طالت المدنيين في ذلك اليوم.
أصبحت «الجرنيكا» شهادة إدانة للحرب وويلاتها الناجمة عن قرارات قادة في سلاح الجوّ تبيّن أن بعضهم مرضى نفسيون، تحرّكهم نزعات عصابية تدفع بهم إلى القتل من دون ضوابط أخلاقية، وأكثر من ذلك، يشعر بعض هؤلاء المرضى بالسعادة المرضية بالطبع، في الوقت الذي ينفّذون فيه إسقاط القنابل على البشر والحياة في أي مكان في العالم.
حين رسم بيكاسو لوحة الجرنيكا بطلب من الحكومة الإسبانية، استجاب فوراً للطلب الذي اعتبره واجباً أخلاقياً من جانب فنان كان ينتمي إلى اليسار في تلك الفترة السياسية والثقافية التي عاشها في باريس، حيث هناك، التقى فرانسواز جيلو.
في الفترة التي عاش فيها بيكاسو في باريس كان الروائي الأمريكي آرنست همنغواي يعيش في العاصمة الفرنسية أيضاً، وهناك التقى بيكاسو: «.. ذهب بسيارته ال «جيب» وأحضر علبة مملوءة بقنابل يدوية، ثم كتب عليها: «إلى بيكاسو من همنغواي».
أصبحت «الجرنيكا» مفصلاً فنياً وثقافياً في تاريخ بيكاسو، لكن الأهم من ذلك، أنها أصبحت لوحة عالمية أيقونية ملهمة للكثير من شعراء العالم الذين كتبوا قصائدهم من خلال روح اللوحة الرامزة للعنف والقتل، والإرادة البشرية في الوقت نفسه.
تحولت «الجرنيكا» إلى بيان فني إبداعي، ثقافي وأخلاقي في الوقت نفسه، وكما لو أن المدينة قد اكتسبت شهرتها العالمية من اللوحة وليس من القصف الذي تعرّضت له بسلاح الجوّ المزدوج من جانب طيارين ألمان وإيطاليين، وهذا الأمر يبدو صحيحاً إلى حدّ بعيد، فالكثير من المدن والقرى، بل والشعوب أيضاً قصفت منذ الحرب العالمية الأولى وإلى اليوم بطيران يحمل أسلحة محرّمة دولياً، ولكن لا أحد يعرف شيئاً عن تلك المدن الممهورة بالدم والرماد، لأنه لا يوجد بيكاسو آخر يوثّق الحرب وكوارثها المرعبة مثلما هو الأمر في «الجرنيكا».
هذا هو وقت استعادة «الجرنيكا» ومشاهدتها من جديد، مشاهدة اللوحة، ومشاهدة المدينة، ثم استعادة بيكاسو نفسه الذي لو أنه على قيد الحياة لما انتهى من رسم «جرنيكا» تلو أخرى.
[email protected]
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







