الاستهلاك قرّب المسافات

02:12 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة *

توافر السلع والخدمات الاستهلاكية كما لم يكن سابقاً وحّد الأحلام بين الأغنياء والفقراء بل قربها إلى مستويات عميقة. فالإنسان عموماً راغب بل قادر على تحسين ظروف معيشته عبر الاستهلاك والسفر وتبديل السلع والخدمات.
يمكن وصف طريقة عيشنا في الدول ذات الدخل المتوسط وما فوق بالمعتمدة على الاستهلاك المتزايد لكافة السلع وحتى الخدمات. ما زال النشاط الفردي عالمياً يسيطر على نشاط المجموعات بسبب الرغبة في الربح والنجاح والعيش الأفضل. هذا جيد إذا تمكنت المجتمعات من تسديد التكلفة دون عناء، أي إذا كان إنتاج المجتمع كافياً لشراء السلة الاستهلاكية. هنالك مشكلة أخرى يمكن وصفها بصعوبة توافر كل ما يحتاج إليه الإنسان في كل المجتمعات. فالكميات تبقى دائماً محدودة وبالتالي تنظيم الاستهلاك يعتمد على وجود شبكة أسعار تحدد الكميات المستهلكة. من أهم مشاكل المجتمعات المستهلكة هي الأضرار البيئية التي تعي أهميتها كل الدول دون أن تتمكن دائماً من حسن المعالجة بالتوقيت المناسب. فمثلاً معدن الألمنيوم المستهلك بكثرة في كل المجتمعات يتطلب إنتاجه استعمال الكهرباء بكثرة مع ما يترافق من تأثير سلبي في البيئة. منذ الستينات، زاد إنتاج الألمنيوم 8 مرات لتلبية الطلب.
يبقى أن هنالك خصائص مهمة مشتركة للاستهلاك الحديث قربت المسافات بين الدول والشعوب وأعطت المستهلك قوة كبيرة من الصعب التغلب عليها. تطور الاستهلاك في العقود الخمسة الأخيرة أكثر من أي وقت تبعاً لما يلي:
أولاً: تغيرت أولويات الاستهلاك من الطلب الكبير على الغذاء إلى الطلب الأساسي على وسائل الاتصال والتواصل بين الناس. تغيرت بسبب تطور المجتمعات وتغير العقلية وانفتاح الإنسان واطلاعه على كل ما يجري داخل دولته وخارجها. أصبح الاطلاع أسهل بفضل تطور الاتصالات والإعلام وتوافرهما بتكلفة ضئيلة يستطيع تأمينها الفقير في أكثرية الدول.
ثانياً: التطور التكنولوجي قلص الفروقات بين المواطنين من ناحية توافر وسائل الترفيه بدءاً من الراديو إلى التلفاز وآليات التسجيل والتصوير والهواتف الخليوية وغيرها. كما أن أسعار السفر تدنت لتصبح بمتناول المواطن من ذوي الدخل المتوسط وما دون. تقدم وكالات السفر عروض سفر وإقامة بأسعار منخفضة ومدهشة في بعض الأحيان. أما السيارات السياحية فأصبحت متوافرة بأشكال وأسعار لم تكن ممكنة في السنوات القليلة الماضية. دخول الصين إلى العالم الاستهلاكي الإنتاجي غير الخريطة ووسعها باتجاهات مختلفة. لا ننكر استمرار وجود فوارق كبرى في الدخل والثروة كما لا ننكر وجود الفقر في كل المجتمعات. إنما توافر السلع والخدمات الاستهلاكية كما لم يكن سابقاً وحد الأحلام بين الأغنياء والفقراء بل قربها إلى مستويات عميقة. فالإنسان عموماً راغب بل قادر على تحسين ظروف معيشته عبر الاستهلاك والسفر وتبديل السلع والخدمات كل فترة تبعاً للإمكانيات والظروف.
ثالثاً: هنالك عامل مشترك للتطور الاستهلاكي وهو التأثير الأمريكي في كل شيء من العلوم إلى الآداب والترفيه والثقافة وغيرها. للتأثير الأمريكي الكبير والواسع سيئات منها السيطرة على الثقافات الأخرى والقضاء على بعضها كما من الحسنات أنه قرب الثقافات والمفاهيم الثقافية بعضها من بعض أي كان توحيدياً في جزء كبير منها.
لم تظهر هذه الخصائص بل قوتها أكثر من آسيا أي تحديداً في الصين والهند واليابان كما في كوريا الجنوبية. أصبحت جميعها مجتمعات استهلاكية بدرجات مختلفة بعد أن كانت لعقود طويلة مجتمعات ادخارية بامتياز. المعلوم عبر التاريخ أن محرك النمو في آسيا كان الدولة وسياساتها، ولم تكن مشاركة القطاع الخاص إلا خجولة. دور وزارات الصناعة والتطور التكنولوجي في اليابان والصين مثلاً كان كبيراً وفعالاً وناجحاً. هذا ما يعرف بالسياسات الصناعية التي دعمت ووجهت وكان لها دور رائد في تحقيق النجاح الصناعي الآسيوي. لم يعد ممكناً تطبيق هذه السياسات اليوم في ظل الاتفاقيات التجارية الإقليمية والدولية، لكن ترامب عبر سياساته التجارية يحاول إعادة بعضها إلى الوجود كي «تعود أمريكا عظمى مجدداً».
في شرق آسيا، العلاقات الاجتماعية مهمة جداً وتوجه الاستهلاك. المواطن يقلد المواطن الآخر في طريقة معيشته وهنالك ما يعرف بالحسد الإيجابي أو الغيرة وهي محاولة نسخ استهلاك الغير أي الأغنى في العيش. المجتمعات العربية تحتوي على هذه العقلية التي تعزز غيرة الإنسان من غيره وبالتالي توجه طريقة استهلاكه والمحتوى. الحسد الإيجابي مفيد ويساعد على التقدم، أما الحسد السلبي فمدمر ولا يعطي النتائج المطلوبة.
ما هي السياسات الوطنية والدولية المشتركة التي سمحت للاستهلاك بأن يتطور ويزدهر ويقرب المسافات بين الشعوب؟
أولاً: توافر وسائل الإقراض للاستهلاك من المحال التجارية وخاصة من المصارف عبر الاقتراض المباشر أو بطاقات الائتمان المنتشرة بشكل منقطع النظير. اشتر اليوم وادفع غداً مع جوائز وحوافز ونقاط، فمن يستطيع الصمود أمام جاذبية السلع والخدمات المدهشة؟ هنالك واقع هو أن الادخار في أميركا انخفض لأن الاقتراض أصبح أسهل ولا حاجة للمواطن للتوفير في المصارف. تشير الإحصائيات إلى أن الأمريكيين ينفقون ثلث الدخل على استهلاك السلع المعمرة ومعظم الفارق على غير المعمرة من غذاء وملابس وغيرها. أصبحت الحياة أطول وأفضل ليس فقط للأمريكيين وإنما لمعظم البشر، علماً أن الخدمات الطبية والتعليمية أصبحت متوافرة أكثر بفضل الاهتمام الداخلي والنشاطات الدولية غير الحكومية.
ثانياً: تغيرت معالم الحياة وطرق الاستهلاك وأصبحت الأجيال كلها بما فيها الشباب واعية لمصالحها. أذواق المواطن متغيرة بسرعة وبالتالي الاستهلاك أسرع ومتنوع أكثر. نوعية الحياة وطرق الترفيه تغيرت كثيراً وتتأثر بما يعرض عليها بل توجه أحياناً هذه التغيرات. تتأثر الأجيال كثيراً ببعضها بعضاً وتؤثر في تطور الأسواق بحيث يعجز المواطن أحياناً عن مقارنة السعر والنوعية ويشتري ما يراه أو ما يعرض عليه.
ثالثاً: أصبح المواطن اليوم أكثر وعياً تجاه النوعية ومنها صلاحية السلعة الغذائية خاصة. تداخلت المصالح الاستهلاكية بالأخلاق إذ لم يعد مقبولاً الغش بل يعاقب في القوانين. جميع الدول وضعت أجهزة لمراقبة نوعية الغذاء والأدوية وكافة السلع والخامات. ترابط الاستهلاك بالأخلاق أصبح أقوى من أي وقت مضى.
رابعاً: دخل الاهتمام بالبيئة في صلب المجتمعات الاستهلاكية. لم يعد كافياً تعزيز الوضعية الاستهلاكية بل يجب معرفة ما يحصل ببقايا هذه السلع أو عندما تصبح غير صالحة. كيف يتم التخلص منها وما هي الآليات التي تسمح بمعالجة النفايات أو السلع المهترئة. كيف يتم التصرف مثلاً بالسيارات المنتهية الاستعمال؟ هل تحرق وكيف يتم التخلص منها؟ كذلك الأمر بالنسبة للغذاء المنتهي الصلاحية أو بقايا الاستهلاك المنزلي والمؤسساتي؟ تداخل الاستهلاك بالبيئة رفع مستوى التعاطي الاجتماعي وجعل المواطن واعياً أكثر لنظافة البيئة ونوعية الحياة. فالمجتمعات التي لا تهتم بالبيئة تتكاثر فيها الأمراض التي تنتقل من جيل إلى آخر كما تتدنى فيها نوعية الحياة.
ظهرت قوة المستهلكين مؤخراً عبر وقف إنتاج طائرة A380 من قبل شركة إيرباص الأوروبية. إنتاج طائرة ال 600 مسافر اعتمدت على فكرة أن تكلفة نقل المسافر الواحد تكون منخفضة عندما يرتفع العدد وذلك اعتماداً على مبدأ وفورات الحجم المعروف في العلوم الاقتصادية. لكن ركائز النقل الجوي تغيرت كلياً، إذ إن المسافر يطلب اليوم أكثر من أي وقت مضى السفر المتكرر المرن عبر وسائل نقل صغيرة سريعة تهبط بسهولة في كل المطارات. كما أن المنافسة القوية وتحرير الأسعار في الأسواق الأساسية جعل من طائرة بهذا الحجم غير مربحة وبالتالي لم يكن ممكناً الاستمرار بها.

* خبير اقتصادي لبناني
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"