آداب الحوار في القرآن

تأملات في كتاب اللّه
13:48 مساء
قراءة 5 دقائق

خلال رحلتي التي بدأت منذ زمن بعيد في التعمق والتأمل في آيات الله، لاحظت أن القرآن مليء بالحوار ويعتمده أسلوباً مركزياً من أساليب الإقناع والتواصل بين البشر على اختلاف أعراقهم ومعتقداتهم وأفكارهم وتصوراتهم عن الله وعن الحياة وعن الغيب وعن الآخرة، إلا أن آية في سورة سبأ جعلتني أتوقف ملياً متدبراً أمام أحكام وآداب ومتطلبات الحوار في القرآن، خاصة ذلك الحوار بين المختلفين حد التناقض، وفيها يقول عز من قائل قُل لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ، وقد لفتني بعمق وصفه عز وجل عمل السيئات بالنسبة للمسلمين بالإجرام قُل لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا، بينما وصف عمل السيئات بالنسبة للكفار وصفاً محايداً ولم يأخذ منه موقفاً سلبياً فقال وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ، وهما وصفان مبنيان على ما سبق من فرضية في الآية التي تسبقها، تلك الفرضية التي تضع المتحاورين على كفتي ميزان متساوية من دون مواقف مسبقة وَإِنَّا أو إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أو فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ، وهي لاشك تمثل الأرضية الأصلح لحوار بناء جاد، ويهدف إلى الإقناع ومن ثم الإصلاح .

لا قهر ولا إكراه

وقد قضى الله سبحانه أن تكون علاقته جل شأنه بمخلوقاته قائمة على أساس الحوار الإقناعي، وليس على أساس القهر والإكراه، والقرآن الكريم يوجهنا إلى أن الحوار هو الأسلوب الذي يجب على المسلمين اتباعه عند بحث القضايا والمشكلات، ويلفتنا إلى أن أول مستلزمات الحوار الاعتراف بالآخر اعترافاً بحقه في الوجود، وبحقه في التعبير عن رأيه، وبحقه في الاختلاف، والآيات في ذلك كثيرة والمواقف من السيرة النبوية لا تعد وكلها تؤكد سنة الحوار وتضع آدابه وضوابطه وترسخ ثقافته لدى المسلمين .

استعمل القرآن الكريم أسلوب الحوار ليدربنا على استعماله في جميع مجالات حياتنا، بهدف الوصول إلى الحق بقناعة راسخة، وارتياح عميق، واطمئنان داخلي، وقد ضم القرآن محاورات بين الخالق عز وجل وبين مخلوقاته ومنهم الرسل الكرام، ومنهم الملائكة المقربون، والمحاورة مع إبليس عند تكريم ادم والسجود له شهيرة معروفة للكافة، وفيه أيضاً حوار بين الرسل وأقوامهم، وبين المؤمن والكافر، وقد أشار القرآن الكريم إلى الحوار الذي دار بين رجل مؤمن، وآخر كافر بقصد تصحيح مفهوم وتصورات ومعتقدات خاطئة منشؤها إنكار البعث، والاعتقاد ببقاء القيم المادية وثباتها، وذلك على نحو ما جاء في سورة الكهف بين الرجلين .

وقد شملت آيات القرآن الكريم نماذج الحوار بين الأخيار فيما بينهم، أو بين الأشرار فيما بينهم، وهناك حوار مع أهل الكتاب، أو مع المنافقين، أو مع المقلدين لسابقيهم في الباطل والضلال، أو مع السائلين للرسول صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا (المجادلة: 1) يوم أن تحاور صلى الله عليه وسلم مع المرأة الضعيفة المسكينة التي تشكو من زوجها، فسمع الله هذا الحوار، وهو حوار داخل في دائرة التشريعات والأحكام، وهذا يعني أن كل الموضوعات العقدية والتشريعية خاضعة للحوار .

لحظة خلق آدم

ونماذج الحوار وأساليبه ومحاوره كثيرة في القرآن الكريم، ولعل نموذج الحوار الأول بعد خلق آدم وفي اللحظة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل في الأرض خليفة، وحين تلقت الملائكة نبأ خلق آدم، كان معنى ذلك أن تحولاً وشيكاً قد بدأت بوادره تلوح في الأفق مع هذا النبأ العظيم، وكان أول ما أثار هذا النبأ أن الملائكة راحوا يتجادلون فيما بينهم، حول هذا المخلوق الجديد الذي أخبرهم الله تعالى بأنه خالقه، وإذ أجرى الله سبحانه وتعالى تصوير المخلوق الجديد في هيئته الطينية، ثم في هيئته الصلصالية الفخارية، كان سؤال الملائكة: ما هذا؟ وكانت مفاجأة الملائكة الأكبر عندما جاءهم الخبر الإلهي: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً وتحول سؤالهم من: ما هذا؟ إلى سؤال أكبر هو: لماذا؟ وكان هذا هو الموقف الوحيد الذي مارست فيه الملائكة - فيما حكى لنا ربنا عز وجل- فعل السؤال والاستفهام .

لحظة ميلاد الإنسان ذلك الكائن الذين انفرد دون الكائنات بخاصية التفكير والجدال، ومسؤولية الاختيار، هي نفسها اللحظة التي مارس فيها الملائكة المكرمون فعل السؤال الذي دفعهم إليه تعجبهم من أن يكون خليفة الله في أرضه عاصياً ومفسداً ويسفك الدماء، وسألوا، وكان طبيعياً أن يسألوا طلباً لعلم ما لم يعلموه، وما خفي عليهم، ولما عرفوا التزموا، وأطاعوا، وسجدوا، لم يكن سؤالهم: معصية، حاشاهم، ولم يكن استفهامهم: استنكاراً، حاشا لله، وإنما هو إفضاء بما في نفوسهم الزكية، وإظهار لمكنون ما فيها لأنهم مفطورون على الصدق والنزاهة من كل مواربة، فلما نشأ في نفوسهم إنكار واستبعاد أن تكون الحكمة من الاستخلاف فساد الأرض وسفك الدماء فيها، أفصحوا عما دار في نفوسهم، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء؟ وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية، وإما بوصف الله لهم هذا الخليفة، وجاءهم الجواب الرباني إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، أي أعلم ما في البشر من صفات الصلاح ومن صفات الفساد، وأعلم أن صلاحهم يحصل منه المقصد من تعمير الأرض، وأنّ فسادهم لا يأتي على المقصد بالإبطال، وأنّ في ذلك مصالح عظيمة ومظاهر لتفاوت البشر في المراتب، وكان قول الله تعالى هذا إنهاءً للمحاورة وإجمالاً للحجّة على الملائكة بأن سعة علم الله تحيط بما لم يحط به علمهم .

حوار مع إبليس

أما حوار الله سبحانه وتعالى مع إبليس، فهو من أخطر النماذج الحوارية في القرآن الكريم، من حيث هو نموذج للحوار بين الحق المطلق والخير المطلق مع رمز الشر المطلق والباطل المطلق؛ وكأن الله سبحانه أراد أن يبين لنا إمكانية الحوار، ولو كان مع أشد الأعداء وأفظعهم، وكان إبليس قد امتلأ حقداً وحسداً وكراهية وعداء لهذا المخلوق المفضل عليه، وقف إبليس موقف استكبار واستعلاء وإباء، ورفض الإقرار بخلافة الإنسان، وأعلن عداوته له إلى يوم الدين، وبدلاً من أن يطلب من الله المغفرة، وبدلاً من أن يعطي نفسه فسحة من الأمل في مغفرة الله، وبدلاً من أن يفتح لنفسه أبواب التوبة والأوبة إلى الإذعان لأمر الله، بدلاً من ذلك كله، اختار إبليس بملء إرادته بل وعن إصرار وترصد للإنسان اختار أن يضحي بالآخرة في سبيل أن يمارس عداوته للإنسان فاختار الدنيا: قَالَ أَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (الأعراف ،14 15) ليكتمل الابتلاء، ابتلاء آدم بإبليس، وابتلاء إبليس بآدم .

والقرآن حافل بالحوار غير المباشر مع أقوال المكذبين والملاحدة والدهريين والناكرين لوجود الله والمكذبين لرسله، وقد سيقت حججهم كلها في أنصع عبارة وتم الرد عليها، ويستحضر القرآن الكريم الرأي المقابل رغم فساده، من دون أن يبتر كلامه ويشوهه ويقطعه ليعلمنا الأدب الرفيع في الحوار الذي استوجب أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة من دون اتهامات أو تهديد أو تكفير .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"