عادي
عاش دائماً بالقرب من البحر

ثــاني السـويـدي.. شـاعـر المــاء

04:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
يوسف أبولوز

عرفت الشاعر والروائي الإماراتي ثاني السويدي ما بين عامي 1985 و1986 في بيئة ثقافية إماراتية ظهرت خلالها أسماء شعرية وقصصية هي الأكثر تشكيلاً لصورة الكتابة الأدبية الإماراتية من ذلك الوقت وحتى اليوم، مع الأخذ في الاعتبار ظهور أسماء شعرية لاحقة هي بالفعل امتداد أدبي لجيل الثمانينات الذي يعتبره الكثير من نقاد الأدب جيل الريادة الشعرية الإماراتية التي قامت آنذاك على ثلاثة اتجاهات شعرية: العمودي، والتفعيلة، وقصيدة النثر.

في ذلك المناخ الشعري، وتحديداً في أوائل التسعينات حيث أصدر مجموعته الأولى «الأشياء تمر» يظهر اسم ثاني السويدي في الساحة الثقافية الإماراتية جريئاً، وممتلئاً بأشواق الكتابة، بخاصة قصيدة النثر، وقد حملت قصيدته منذ البداية إشارات مكانها، والمكان هنا هو رأس الخيمة حيث طفولة الشاعر وصباه وشبابه بالقرب من البحر، أو قل «في البحر»، وسوف نعاين بوضوح أكثر ثيمة «البحر» في مجموعته «ليجف ريق البحر»، وفي الوقت الذي اعتمد فيه بعض شعراء قصيدة النثر في الإمارات على «ثقافة هذه القصيدة» إن جازت العبارة، وأقصد بِ «ثقافة القصيدة» تلك الترجمات والتجارب العربية والعالمية.. ذهب ثاني السويدي إلى استعارة لغته، وصوره، ولونه الشعري من المكان الإماراتي «الجلفاري»، نسبة إلى جلفار الاسم الأقدم لرأس الخيمة، وبذلك امتلكت قصيدته منذ البداية أصالتها المكانية، ولم تتوسّل أمزجة شعرية عربية أو عالمية، بل بقي السويدي مشدوداً إلى روح مكانه، وروح طفولته.. ومرة ثانية: روح البحر.

بهذا التوصيف يكون ثاني السويدي شاعر قصيدة محتشدة بالماء، لا لغة تتوسل البلاغة الرسمية، ولا صور تغريبية مركبة أو مصطنعة، ولا «مصطلحات» عابرة أو مصنوعة، ولا افتعال أو توظيف كلي للخيال. ولا ممارسة كتابية جافّة، بل، على النقيض من كل ذلك لا شيء، إلاّ الماء. هذا الروح الأبدي المستعار فقط من البحر، والذي سيكون هو الاسم السرّي والعلني لقصيدة ثاني السويدي.

تجربة روائية وحيدة

صدقية ثاني السويدي من حيث التقاطه لروح ومفردات مكانه.. مكان الذات، ومكان الكتابة، نجدها أيضاً في تجربته الروائية الوحيدة وهي رواية «الديزل» وهي من حيث التوصيف أو التجنيس الأدبي تنتمي إلى «النوفيلا»، أقصر من رواية، وأطول من قصة قصيرة، وهي لم تكن مغامرة بالنسبة للسويدي، صدرت في بيروت في 1994، فهو أصلاً كائن مغامر في حياته، وفي الكتابة. ولكن في الحياة هو المغامر الذي يعشق هذه الحياة، فيحوّلها إلى مادة إبداعية.

«الديزل» هو اسم الشخصية التي تتمحور حولها الرواية، وهو شخصية حقيقية من لحم ودم وله اسم وكنية ولقب، ومرة ثانية لا توظيف هنا للخيال، بل تدوين الحياة بما كانت عليه.

«الديزل» بأشواقه، ونزواته، ومزاجاته، وغموضه، ومكانه أيضاً شخصية واقعية، ولفرط واقعيتها بدت كأنها شخصية متخيلة.

هل هذا الأدب نوع من الكتابة يندرج تحت مصطلح «الواقعية السحرية»؟.. لم يكن ثاني السويدي يفكر بالمصطلحات، ولا بالمفاهيم ولا باجتهادات نقاد الأدب، بل كان يكتب بعفويته، وبساطته، مستنداً إلى تكوينه الثقافي أولاً، أما الجزء الأكبر من أساس هذا التكوين فهو المكان الذي «أهداه» الكتابة سواءً في الشعر أو في الرواية.

حميمية المكان

انعقدت بيني وبين ثاني السويدي صداقة كان المكان أحد مكوناتها، فقد عملت في رأس الخيمة في النصف الأول من ثمانينات القرن العشرين، وعرفت هناك كوكبة من شعراء وقصّاصي هذا المكان الحميم، المكان الشعري والروائي بامتياز: رأس الخيمة الذي أنجب: علي أبو الريش، وعبد العزيز جاسم، وجمعة الفيروز، وعبد الله عبد الرحمن، وأحمد العسم، وعبد الله السبب، وعبد الله الهدية وغيرهم من كتّاب وكاتبات هم رموز معروفة اليوم، في الثقافة الإماراتية.

ضمن هذه الكوكبة اللامعة يسطع اسم ثاني السويدي الذي عرفت فيه طيبة القلب، والكرم، والشهامة.

وقف ثاني السويدي إلى جانب شعراء عرب في أزماتهم العصيبة التي تعّرضوا لها جرّاء ظروف الحروب بشكل خاص. وقف إلى جانب الكثير من الشعراء العراقيين واللبنانيين والسوريين والمصريين، هيأ الظروف لأن يقيموا ويعملوا هنا في الإمارات في الصحافة وفي غيرها من حقول، ووراء كل ذلك قلب شاعر محب ووفيّ لأصدقائه، وكانت ذروة سعادته أن يرى أحد أصدقائه الشعراء وقد عمل واستقر ونجح في حياته، هذه شخصية ثاني السويدي بلا مبالغة ولا إضافات.

ثاني السويدي مباشر وصريح في قول الحق والحقيقة وقد أخذ هذه الطبيعة من تربيته الحرّة الكريمة.

ثاني أيضاً قارئ نهم في التاريخ، والأنساب، يقرأ الشعر والرواية والفلسفة، قارئ في الحضارات والأديان، ورغم ذلك لا يتبجح بهذه الغزارة من الثقافة، بل إن هذه الثقافة التعددية الخصبة لم تؤثر في الروح الأولية الفطرية - المكانية في كتابته سواءً في الشعر أو في الرواية.

جهات الحياة الأربع

ثاني السويدي عرف الكثير من بلدان العالم بشغفه الحقيقي لرؤية العالم. لقد كان السفر أحد روافد ثقافته، رأى العالم ورأى الحياة، اقترب من أرواح الشعوب، و«تذوق» الأمكنة التي مرّ بها أو حط رحاله فيها: أوروبا، آسيا، وتحديداً آسيا التي أحبها. بيروت التي أحبها أيضاً وأقام فيها شهوراً متفاعلاً مع الثقافة اللبنانية ورموزها الفاعلة في التسعينات وبعد ذلك من زمن بيروتي، عرفه ثاني السويدي عن قرب.

أحب ثاني السويدي القاهرة، وعاش فيها فترة من الزمن، ومرة ثانية، كما بيروت، تفاعل من الثقافة العربية المصرية، وعاش المكان القاهري بكل تفاصيله، وجمالياته.

ثاني السويدي بنفسه أو هو ذاته شخصية شعرية أو شخصية روائية، ولكنه «بطل» نفسه، وبطل حياته لا بطل النصّ المكتوب.

هذا الرجل القوي، المندفع إلى الحياة من جهاتها الأربع كان يحمل في داخله قلب طفل، وبراءة إنسان يختلف كلياً مع البشاعة والكذب ولا يعرف ثاني السويدي التعصب والكراهية، كان محباً كبيراً لبلاده. عاشقاً كبيراً لمفردات وروح ولغة وهواء بلاده. حمل الإمارات في قلبه، كما حمل العروبة أيضاً في هذا القلب الذي هو مكان يشبه بيتاً لأصدقائه.

ثاني السويدي معنى شعري إماراتي جدير بأن يقرأ من جديد، وبأكثر من مستوى، سواءً قراءة شعرية، أو قراءة روائية، وهو يستحق التكريم الثقافي المعنوي كما يستحقه كل الرّاحلين الذين تركوا لنا إرثاً أدبياً جديراً بالحياة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"