داء الصورة

00:13 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يبدو أن الهوس بالتصوير بات يغزو البشر الآن، منذ أيام قليلة قام أحد العمال في الأرجنتين بتصوير نفسه «سيلفي» بجوار جسد أسطورة كرة القدم الراحل مارادونا، ووصفت بعض المواقع الخبر بالصادم والمثير للسخط، ولم يلبث أن تلقى هذا العامل تهديدات بالقتل، وفصل من عمله، وهناك أنباء عن محاولة بعض العمال الآخرين تكرار الواقعة نفسها، فضلاً عن غضب انتاب جمهور مارادونا وكل من يمتلك حساً إنسانياً سليماً، تجاه ما حدث.

ولكن هل هذه هي المرة الأولى التي نقرأ فيها عن مثل هذه الأفعال؟، وكأننا استيقظنا ذات يوم، لنجد أنفسنا نتميز بعشق يتطور نحو الجنون تجاه الصورة، ألا نشاهد الآن على مواقع التواصل كل أنواع الفيديوهات التي لم يكن هناك أي مجال لتخيلها منذ عدة سنوات؟، فهذا طفل لم يتجاوز العاشرة صور والده وهو يقتل والدته، واحتفظ بالفيديو ليعرضه على النيابة، وآخر صوّر أمّاً تلقي بولديها في النهر، وثالث صوّر وصيته قبل أن يقدم على إنهاء حياته، أما فيديوهات الحرائق وحوادث الطرق فهناك المئات منها التي تبث على مواقع التواصل يومياً.

 هي مجرد عينة من الوقائع التي طالعناها في الشهور القليلة الماضية، ولنا أن نسأل عن تحولات جوهرية في النفس البشرية، فهذا الطفل لم يبك ولم يشعر بالرعب أمام القتل، وذلك الرجل أقدم على الانتحار بعدما جلس أمام الكاميرا وكأنه يستعد لنزهة، ولنا أيضاً أن نستغرب إزاء هؤلاء الذين يصورن الحوادث الخطيرة ولا يفكرون في مساعدة الضحايا. وربما تكون واقعة مارادونا بسيطة بالمقارنة مع النماذج السابقة وغيرها، ولكنها شهرة أسطورة الكرة.

في الماضي تحدث البعض عن قوة الصورة، قيل إنها تساوي ألف كلمة، ونظّر البعض لها، وتحدث عن تأثيرها العديد من المفكرين وبعض الفلاسفة، كان الجميع يتأمل في مفعول الصورة الفوتوغرافية أولاً، ثم تأثير الإعلام المرئي لاحقاً. تخصصت المفكرة الأمريكية سوزان سونتاج في قراءة أبعاد الصورة ودلالتها، وفي أكثر من عمل أكدت أن البشر لم يعودوا يدركون العالم من دون صور، بل إن الحروب في القرن العشرين والصراعات المختلفة لا يمكن فهمها خارج إطار التصوير، الذي يضخم الحدث أو يتجاهله، ليلعب بالعقول لإقناعها بسياسة ما.

الآن نحن نعيش عصر الصورة «السيلفي» والفيديو الخاص، وهناك طوفان من الصور لا تحكمه إيديولوجيا ما ولا تضبطه مواثيق أخلاقية، والكارثة أن الإعلام التقليدي يركض وراء تلك الصور، واقتصر دوره على التأكد من صحتها وحتى عندما لا يعرض صوراً أو فيديوهات معينة، فإنه ينشر قصصاً حولها بما يدعو البعض للدخول إلى مواقع التواصل لمشاهدة الأصل. لقد أصبحنا جميعاً مرضى بداء الصورة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"