نيوزيلندا تُقوِّم قصورها

00:21 صباحا
قراءة دقيقتين

علي قباجه

تتقدم الدول وتزدهر عندما تركز على أوجه قصورها، وتعمل على تقويمها، من دون مكابرة أو تنصل من المشكلات وعدم الاعتراف بها، وهذا ما قامت به نيوزيلندا التي لم تتوقف عند إدانة الهجوم على المسجدين بكرايستشيرش في 15 مارس/آذار 2019، أو الاكتفاء بمحاكمة المجرم، وإرضاء أهالي الضحايا، ثم كأن شيئاً لم يكن؛ بل شكلت لجنة مستقلة، وطالبت بتحقيق معمّق لدراسة أسباب الحادث الدموي الذي أودى بحياة51 مصلياً في مجزرة بشعة مصورة، لمنع تكراره. هذه اللجنة خلصت في تقرير صدر مؤخراً، إلى أن ثمة تقصيراً كبيراً من أجهزة الدولة، حيث إن وكالات الأمن في البلاد كانت تركز بصورة شبه كاملة على تهديد الإرهاب من طرف «متشددين إسلاميين» قبل أن يرتكب متعصب للجنس الأبيض، أسوأ مذبحة تشهدها البلاد.

بل وانتقدت لجنة التحقيق، الشرطة على تقاعسها عن تحري الفحص اللازم عند إصدار ترخيص السلاح الناري للأسترالي برينتون تارانت، الذي أصدر بياناً عنصرياً قبل فترة وجيزة من تنفيذه المقتلة، ولكن رأت اللجنة أيضاً أنه على الرغم من أوجه القصور، فإنه لم تكن هناك إخفاقات داخل الوكالات الحكومية من شأنها منع الهجوم، لكن الحكومة آثرت الاعتذار على الرغم من تبرئتها، وفضلت رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن، التي فازت مؤخراً بأغلبية ساحقة، تحمّل المسؤولية وأكدت أن هذه إخفاقات كان يجب ألا تحدث، على الرغم من أن أرديرن حظيت بإشادة دولية وشعبية، لما أبدته من تعاطف مع ضحايا الهجوم واتخاذها خطوات عملية تحد من أي فعل إرهابي في البلاد، عبر المنع السريع لبيع الأسلحة نصف الآلية شديدة الفتك، وإطلاقها تحركاً عالمياً لمناهضة التطرف على الإنترنت.

الحكومة قبلت بشكل عاجل جميع توصيات التقرير ال 44، بما في ذلك إنشاء جهاز مخابرات وأمن وطني جديد، وتعيين وزير لتنسيق رد الحكومة على التقرير. كما قالت إنها ستشكل وزارة للأقليات، وستشدد قوانين منح تراخيص الأسلحة وقوانين مكافحة الإرهاب، وستلجأ إلى تغييرات تمكّن الشرطة من التعامل بشكل أفضل مع جرائم الكراهية، في خطوة من شأنها امتصاص الغضب بسبب تجاهلها المتكرر لتحذيرات من تصاعد جرائم الكراهية، وتسخير كل الطاقات الأمنية لمراقبة طرف دون آخر، ما تسبب في وقوع الجريمة العنصرية.

نيوزيلندا رأت أن الإنسان أغلى ما تملك، فعملت لأجل ذلك، وسخرت طاقاتها؛ بل إن مسؤوليها لم يبرئوا أنفسهم، فتحملوا المسؤولية وانطلقوا نحو ترشيد الحكومة وتقويمها، وبناء نظام عادل، كما أنهم لم يُميتوا القضية بتشكيل لجان تحقيق لا يُعرف لها قرار كما يحدث في كثير من البلدان العربية التي أصبح المواطن فيها عندما يسمع بتشكيل لجان، يتيقن أن الحكومة لن تأتي بحق، وستتجاوز عن الباطل والمقصرين والمتآمرين؛ لأن هذه اللجان تستخدم كأداة لامتصاص الغضب لا لإحقاق الحق.

ليس من المعيب الاستفادة من التجربة النيوزيلندية، والعمل على إصلاحات جذرية تنهض بالمنطقة، وليس دفن الرؤوس في الرمال، واستسهال الأخطاء وعدم اعتبار أي قيمة لسيل الدماء النازفة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"