متعة التراث وثقل الحاضر

01:04 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

القارئ لكتابات الكثير من مفكرينا حول التراث العربي يلاحظ مشكلة أساسية تتعلق بالرؤية اللاتاريخية في التعاطي مع العديد من زوايا هذا التراث. رؤية لا تقتصر على أطروحة بحثية لنقد جانب فلسفي أو معرفي، ولكنها تمتد إلى تحقيق الكتب القديمة، ولا تتوقف عند ما كتبه السلف للنخبة، وهو ما تعاملوا معه بروح تتوخى الموضوعية والدقة وفق مناهج زمنهم، بل تشمل تلك الرؤية أدب الرحلات والجغرافيا.. أي ما خصص آنذاك للجانب الإمتاعي والحكائي، فالمفكر المعاصر يتعامل بأحدث ما وصلت إليه علومه مع كتابات حاول أصحابها الاجتهاد مع ظروفهم المختلفة تماماً. 

 في العديد من كتب الجغرافيا، أو الفلك القديمة، يواجه القارئ مشكلة إيديولوجية مع محقق الكتاب الذي تتضخم هوامشه لتصحيح معلومات المؤلف، أو التعليق عليها، فضلاً عن مقدمته الخاصة التي تنتقد معظم ما ورد في النص الذي يقوم بتحقيقه، ويصل هذا النقد إلى حد الرفض بل والسخرية من رؤية المؤلف. وهناك مقارنة دائماً مع أحدث الخرائط وما كشفته مراكز الفضاء الحديثة، ثم ننتقل إلى مرحلة اتهام المحقق للمؤلف، فأعماله وغيره من القدماء كانت السبب المباشر وراء حالة الجهل وتفشي التفكير اللاعلمي والخرافي، وانتشار الأساطير السائدة بين معظم البسطاء في العالم العربي. 

 وإذا انتقلنا إلى كتب الرحلات فسنجد وجهة النظر مستنسخة وإن كانت لتحقيق غايات أخرى، فابن بطوطة تحدث عن عوالم غرائبية وعجائبية، وابن فضلان تميز بعنصرية واضحة في رؤيته لشعوب الشمال التي اعتبرها «بربرية»، وبالتالي هو مسؤول، وغيره، عن رفض «الآخر». 

 لا نعثر أبداً على ظل من تسامح لدى معظم محققي تلك الكتب تجاه مؤلفيها، ولا يمكن إلا أن نلمح أن المحقق يتحدث عن واقعه هو، فالتراجع العلمي والتفكير الخرافي مشكلاتنا نحن، وأسبابها في الراهن لا الماضي، وأسلافنا من الفلكيين والجغرافيين، وحتى الرحالة، واجههم عالم غامض كان لا بد من تفسيره بما توفر لهم من أدوات، وكانت معاناتهم أكبر وأصعب نتيجة لبدائية تلك الأدوات. ولو توافرت لهم خرائط «جوجل»، والتلسكوبات فائقة الحداثة، لكانوا تركوا لنا شيئاً مختلفاً، ولا يمكن تصور إيمان أحد علمائنا بهذه الأفكار اليوم، ولا دور لها في إعاقة التقدم، وحتى إعجاب البسطاء بتلك المرويات لا يؤثر فيهم إذا بحثنا عن سبل فعالة يمكن من خلالها إشاعة العقلانية والرؤية العلمية، وغياب التسامح إفراز واقع تتعدد مشكلاته التي يأتي في نهايتها ما نعثر عليه هنا، أو هناك في كتب التراث.

 إن تراثنا كما ندركه ينقصه الحس التاريخي والجمالي، أي أن نقرأ ونستمتع ونحن نعي أننا أمام الماضي، هي لحظة نتخفف فيها من ثقل الحاضر، وإشكالياته الخاصة بنا وحدنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"