عادي

الثقافة محور أحاديث سلطان

23:15 مساء
قراءة 7 دقائق
1

الشارقة : يوسف أبو لوز

قبل ظهور الكيانات والمؤسسات المحلية التي تحمل كل مفردات العمل الثقافي في الدولة، وقبل أن يتبلور مشروع الشارقة الثقافي كرؤية وتنظيم وإدارة، وقبل أن تكون هناك إدارات وفرق عمل وبرامج يومية أو شهرية على شكل فعاليات وأنشطة منتظمة ومنذ أوائل سبعينات القرن العشرين، حمل صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، فكرة الثقافة ومعناها ومفهومها الإنساني والفكري والجمالي والإبداعي، وانشغل سموه مبكراً بالعمل الثقافي والتوجيه نحوه والتشجيع عليه. منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي أسس صاحب السمو حاكم الشارقة لمشروع الإمارة الفكري، المعرفي، المستقبلي، الإنساني، وقد ذكر سموه في أكثر من مناسبة آنذاك كل ما يتصل بتدشين بنية ثقافية منظمة في الشارقة من الكتاب إلى المسرح إلى الفنون التشكيلية والآثار والمعمار وثقافة الطفل.

 العمل الثقافي، والبنية الثقافية التأسيسية، هما هاجس صاحب السمو حاكم الشارقة، وهما أساس فكره القيادي ورؤيته الحاكمة، ولكي نشير إلى هذه المنطلقات الأولية في السبعينات من القرن العشرين نعود إلى مرجع توثيقي صحفي تاريخي مهم هو أحاديث صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، منذ العام «١٩٧٢» إلى «٢٠١٨»، وقد صدرت هذه الأحاديث في أجزاء ثمانية في العام ٢٠١٩ عن منشورات القاسمي في الشارقة، وفي هذه المادة سنأخذ أحاديث سموّه ذات الصلة بالثقافة في فترة السبعينات أولاً، فهي الفترة التأسيسية التي كانت مركز تفكير سموّه، ومن ذلك المركز السبعيني حيث وضع سموه أحجار الأساس لمشروع الشارقة الثقافي الذي نجح في أن يكون مشروعاً متماسكاً بأبعاد ثلاثة واضحة، هي: بُعْد المحلية الإماراتية، والبعد العربي، والبعد العالمي.

ومن الضروري جداً لمن يريد معرفة فكر سموه أن يعود إلى ما كان يقوله قبل أكثر من خمسة عقود من الزمان وسموه شاب، ويثق بربط الثقافة بجيل الشباب أولاً، فالمشاريع الثقافية تحتاج إلى الحيوية والتفتح والأمل.

ما قاله صاحب السمو حاكم الشارقة في السبعينات وفي مراحل زمنية تالية بعد تلك الفترة التأسيسية المبكرة هو قاعدة وأصول لمشروع الشارقة الثقافي، وهو رؤية رجل قائد وحاكم ومثقف عرف في شبابه وإلى اليوم قيمة الثقافة بأبعادها الثلاثة، لكن تركيز سموه في البداية سيكون موجّهاً نحو الثقافة المحلية وخصوصيتها التراثية أولاً، والتقاء هذه الخصوصية بثقافات العالم وحضاراته الحيّة.

كانت الثقافة، ولاتزال، وستبقى هي روح الحكم والقيادة والحياة في فكر سلطان، وهنا، سوف نعود إلى حوار أجرته مع سموه مجلة «آخر ساعة» المصرية في فبراير/شباط ١٩٧٣، وفي ذلك الحوار قال سموّه: «..إن كل مثقف من أبناء الشارقة، سوف يجد الموقع المناسب الذي يستطيع من خلاله أن يعطي لبلده ومواطنيه ثمار علمه، وليشارك في تطوير بلدنا الحبيب.. لقد أصبح العلم هو سيّد الحياة في هذا العصر الذي نعيشه..».

واليوم، ونحن في العام ٢٠٢١ نقيس رؤية سموه من ١٩٧٣ وحتى الواقع الثقافي والعلمي الرّاهن في الشارقة، نجد أبناء الشارقة المثقفين والشعراء والباحثين هم الذين يتولّون المواقع المناسبة في المؤسسات التي تخدم البلد ومواطنيه، ونجد الشارقة على مستواها المتقدم عربياً وعالمياً في التعليم الجامعي والعالمي، وفي إطار تخصصات تخدم مرة ثانية البلد ومواطنيه.

أسرة واحدة

 في ١٨ يوليو/تموز ١٩٧٤ أجرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية حواراً مع سموه، وقد طرح الصحفي على سموه أسئلة عدّة، كان من بينها سؤال عن طريقة الحكم في الشارقة، وكانت إجابة سموه عن هذا السؤال تنبع من رؤية ثقافية، أو من رؤية حاكم مثقف يؤمن بالحوار الذي هو الجسر المعنوي الوحيد في أفكار ومعتقدات وفلسفات الشعوب، قال سموه انطلاقاً من فكر إنساني مستقبلي: «..إننا نعيش بين الناس جميعاً.. نحن منهم، وهم منّا، فنحن جميعاً أسرة واحدة، ونقبل المناقشة والحوار المخلص، نحن جميعاً نزرع ونتحلّى بالصبر حتى ينضج الثمر، ولا خلاف على ذلك.. ونحن ننظر جميعاً للمستقبل نظرة الأمل والتضامن»، وعلى المستوى الثقافي إذا تأملنا المعنى المجازي لعبارة.. «..نتحلى بالصبر حتى ينضج الثمر..»،  نجد أن الشارقة عاصمة الثقافة العربية، وعاصمة الثقافة الإسلامية، وعاصمة العالم للكتاب، وعاصمة المسرح، وصناعة النشر، وغيرها من ثمار كان يتطلع إليها صاحب السمو حاكم الشارقة في السبعينات.

منذ بداية تولّي صاحب السمو حاكم الشارقة مقاليد الحكم في الإمارة كان ولايزال يصدر عن رؤية مثقف يعوّل على فكرة الوحدة والاتحاد، ويتعلّم من التاريخ وتجاربه وعبره، وينبذ من جهة ثقافية مسؤولة أي شكل من أشكال التجزئة السياسية، يقول سموه في كلمة ألقاها بمناسبة افتتاح مبنى دائرة المرور في الشارقة في نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٧٥: «..إن التجزئة السياسية بصورتها القائمة اليوم في الوطن العربي، وجميع الصور المتغيّرة التي مرّت فيها للانقسام، سواء في البشر، أو الوطن، أو الحضارة، أو المصلحة، لا تستند إلى أي أساس موضوعي، فلقد علّمنا التاريخ أن تجزئة الأمّة العربية دوماً تمزيق للكل الواحد إلى أشلاء، ومصالح وأهواء، وهذا ما نراه اليوم واضحاً على مسرح الوطن العربي الكبير».

الأمل الصادق

 في السياسة، يحضر لسان سلطان المثقف، وفي الاقتصاد وفي الإدارة وفي الحكم وفي العلاقات الدولية، يحضر لسان سلطان المثقف، صاحب السمو حاكم الشارقة يُقرأ كاتباً ومثقفاً حتى لو تحدّث في افتتاح مشروع خدمي عام، أو لو تحدث في قضية محلية أو عربية أو عالمية، نحن دائماً مشدودون إلى سلطان المثقف، إلى رؤيته وهو ينظر إلى الاتحاد وروح الاتحاد مرة ثانية من زاوية الحاكم المثقف.. يقول سموه في لقاء مع مجلة «صوت الخليج» الكويتية في إبريل/نيسان ١٩٧٦: «..إن الاتحاد هو العزّة، والأمل الصادق لمواطني هذه المنطقة، وليس هناك من بديل عن هذا الالتحام للشعب بعد أن لمس المواطن مدى المكاسب الاتحادية التي ينعم بها الآن..»، ومن المناسب هنا أن نذكّر بمضامين بعض المسرحيات التاريخية لصاحب السمو حاكم الشارقة، والتي تؤكد على فكرة الاتحاد وروحه ومكاسبه.

قاعدة ومبدأ

 إن النقطة الحاسمة في رؤية صاحب السمو حاكم الشارقة الثقافية كانت واضحة وحاسمة في ١٨ إبريل عام ١٩٧٩، وفي مساء ذلك اليوم عرضت مسرحية «شركة العجائب» في قاعة إفريقيا في الشارقة، وقدّمت العرض فرقة المسرح القومي للشباب، وهنا قال سموه: «..إنه قد آن الأوان لوقف ثورة الكونكريت في الدولة، لتحلّ محّلها ثورة الثقافة..».

هذه العبارة أصبحت أيقونة العمل الثقافي الإماراتي برّمته، وأصبحت تستعاد في كل مناسبة ثقافية إماراتية، وهي بمثابة قاعدة ومبدأ للعمل الثقافي الذي يصنع الحضارات.. وأعرب سموه كما جاء في الجزء الأول من أحاديث سموه عن أمله «في أن يتجاوب شباب المنطقة مع طموحاتي نحو خلق قاعدة ثقافية تشمل الآداب والفنون، وعدم التمادي في مجال البحث عن الأرباح والثروة، متجاهلين أهمية الثقافة، وأنه لا بدَّ من السموّ بالروح وبنائها بالثقافة والفنون». 

ودعا صاحب السمو حاكم الشارقة إلى التخطيط بجدية ونشاط وضمن خطة علمية وعملية جادة لرفع مستوى الشباب في مجالات الثقافة والفنون والآداب، وبعث روح الاهتمام بها لدى ذاك القطاع المهم من أبناء الدولة، وفي ذلك اللقاء، وكما هو موثق في الجزء الأول من أحاديث سموه كشف للشباب عن رغبته في زيادة الاهتمام بالمسرح، ودفع عجلته إلى الأمام.

ومنذ ذلك المساء في العام ١٩٧٩ وحتى اليوم يوجد في الإمارات أكثر من ٣٠٠ عنصر مسرحي، بين ممثل وكاتب ومخرج ومهندسين وإضاءة وصوت وديكور وإداريين ومشرفين على ورش وعروض وتدريبات مسرحية.

اليوم، وبعد نحو خمسة عقود على إعلاء شأن الثقافة بيد ولسان سلطان يوجد في الإمارات حوالي ستة مهرجانات مسرحية: المسرح الخليجي، أيام الشارقة المسرحية، المسرح الصحراوي، المسرح العربي، مسرح الطفل، المسرح المدرسي، وأنشئت في الشارقة الهيئة العربية للمسرح، ولها فروع حية وحيوية في العديد من العواصم العربية، واليوم في الإمارات حركة نشر مسرحية متواصلة، وجوائز للعروض الفائزة الإماراتية والخليجية والعربية، وعلى رأس كل ذلك أسهم صاحب السمو حاكم الشارقة بالكتابة للمسرح ضمن تخصص مسرحي تاريخي، ودعم المسرحيين الإماراتيين والعرب مادياً ومعنوياً، وتفقد أحوالهم وغمرهم بمحبته ولطفه وكرمه.

مسارات متوازية

 الأساسيات السبعينية والثمانينية في ما يتعلق برؤية وفكر صاحب السمو حاكم الشارقة تجاه التأسيس الثقافي والبنية الثقافية لم تكن فقط تعطي المسرح امتيازاً أوّلياً، بل كانت خطوط الثقافة في الشارقة تتجه إلى المستقبل بمسارات متوازية.. إلى جانب الكتاب ومعارض الكتب، والبينالي والفنون التشكيلية، والتراث والثقافة الشعبية، والآثار، والمعمار، وصولاً اليوم إلى صدور الأجزاء الثمانية الأولى من أكبر معجم لتاريخ اللغة العربية والأول من نوعه من حيث الحجم والمنهج والتوثيق، ثم إنشاء بيت الحكمة في الشارقة، ومجمع القرآن الكريم، ومدرّج خورفكان، والفيلم السينمائي الروائي الذي يوثق لبطولة أهل خورفكان قبل نحو ٥٠٠ عام، الذين قاوموا الاستعمار البرتغالي وأطماعه في خيرات وتاريخ المنطقة.

عبر عقود خمسة من الوفاء للعمل الثقافي واحترامه واحترام رموزه ونخبه شيّد صاحب السمو حاكم الشارقة معماراً ثقافياً يخلد في الزمن والتاريخ عاماً بعد آخر، ليصبح تراثاً وذاكرة ومعنى نبيلاً تتناقله الأجيال.

مسؤولية تاريخية

 كل هذه الإنجازات الثقافية كانت تمر أحياناً ضمناً وتصريحاً في أحاديث صاحب السمو حاكم الشارقة في العقد الأول والثاني من تولّي سموه الحكم، وكانت المناسبات الثقافية في أوائل الثمانينات لحظات عودة أصيلة إلى جوهر الثقافة بالنسبة لصاحب السمو حاكم الشارقة، مثل افتتاحه مكتبة الشيخ عبدالله بن علي المحمود في الشارقة «الخميس ١٧ نوفمبر ١٩٨٣»، وفي مساء التاسع من فبراير ١٩٨٥ نظمت الدائرة الثقافية في الشارقة المهرجان الأول لثقافة الطفل على مدى أسبوع، وهي مناسبة توثيقية أن نذكر الكلمة التي ألقاها سموه في المناسبة، حيث قال: «.. إننا نطمح دائماً إلى تأسيس مراكز ثقافة للطفل، بما فيها مكتبات متخصصة، ومراسم للمواهب والهوايات، تنمّي قدرات الأطفال، وإن هذه مسؤوليتنا أمام التاريخ..».

اليوم، تشهد كل دورة من معرض الشارقة الدولي للكتاب جائزة تكريمية قيمتها مليون درهم للكتاب الفائز في الكتابة للطفل، واليوم ثمة مسرح متخصص للطفل في الشارقة، واليوم ثمة صناعة نشر متخصصة في كتاب الطفل، امتداداً طبيعياً لذلك النشاط الأول في العام 1985.

 تنمية الإنسان

 في كل مناسبة ثقافية إن كانت تتصل بمعرض الكتاب أو ثقافة الطفل أو المسرح أو الفنون التشكيلية تحضر شخصية صاحب السمو حاكم الشارقة المثقفة، المُوجِّهَة، والناطقة بفكرها وثقافتها العربية الأصيلة، وعلى سبيل المثال نقرأ هنا ما قاله سموه في افتتاح المعرض التشكيلي التاسع في الثلاثاء ٢٦ ديسمبر/كانون الأول ١٩٨٩: «..إن الثقافة والفنون والآداب ليست لسدّ الفراغ وتمضية وقت ضائع، إنها بكل المقاييس والأعراف من مقوّمات تنمية الإنسان في مجتمعنا المعاصر».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"