أشباح الماضي

00:53 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

ما الذي ينقص الفكر العربي لكي ينخرط في قضايا العالم المختلفة؟

إن المتابع لأطروحات كثير من المهمومين بإشكالية التقدم في أوطاننا العربية، يلاحظ مفارقة أولى، ففي الوقت الذي يحيل فيه مصطلح التقدم إلى الاشتباك الآني مع قضايا الآخرين، نجد أطروحاتنا غارقة حتى النخاع في أكثر مسائل ماضينا خصوصية، تبدأ تلك المفارقة مع دعوة معظم مفكرينا لكي نحيا في العصر، ثم يستدرجنا هؤلاء إلى الماضي لمعرفة لماذا نعجز عن مواكبة معطيات الراهن، ولا يتوقفون عند ذلك فحسب؛ بل يعيدون اجترار الماضي بوصفه المحرك الأساس للراهن، وأخيراً يصلون إلى النتيجة المعروفة سلفاً، فنحن نعيش الماضي على مستوى العقل والوجدان.. وكثيراً ما نعثر في كتابات عدة على تعبيرات مثل: «العرب كائنات تاريخية».

 تكتمل الرؤية السابقة بالتورط في سلبيات الماضي واعتبارها السبب المباشر في تراجعنا الحاضر، فلسان حال مفكرينا يتماهى مع ما قاله نزار قباني يوماً «فتاريخنا كله محنة»، وإن كان حس الشاعر هيمن على نزار، فإن المفكر عندما يكرر هذه الأطروحة نظرياً، فإنه يحكم على فكرة التقدم نفسها بالفشل، فالذي يعيش في محنة دائمة لا يستطيع الإيمان بالمستقبل والعمل من أجل الازدهار. 

أما ما يمكن توجيهه بعد عقود من طرح أفكار عدة تؤكد «محنة تاريخنا»، فيتمثل في سؤالين: وماذا عن تاريخ الشعوب الأخرى؟، وهل توجد نخب في العالم أنتجت مثل هذه الأفكار ورسختها كما حدث في حالة النخب العربية؟.

إن تاريخنا لم يكن كله محنة، والعرب ليسوا كائنات تاريخية لا تعرف إلا ماضيها. إن ما حدث بالأمس البعيد يؤثر فينا بدرجة ما، ولكنه لا يحرك الحاضر ولا يسيطر عليه، وهناك أمم تعرضت لمحن وكوارث في ماضيها، يبدو ما حدث لنا مقارنة بها بمثابة النزهة، وهنا نلمح أن مفكرينا لا يعيشون لحظة العالم الآن، ولا ينخرطون في قضاياه وحسب؛ بل لا يدركون تاريخهم من منظور إنساني شامل. أما راهننا فمحكوم بقوانين اجتماعية وبعلاقات سياسية واجتماعية ودولية تتبدل باستمرار وفق متغيرات اللحظة، وعدم أخذها في الاعتبار، والركون فقط إلى سلطة الماضي «المرعبة»، يعني تفريغ مجتمعاتنا من آمالها وأحلامها، وأحزانها وأفراحها وحتى صراعاتها الداخلية، فتتحول إلى مجتمعات تخلو من الحياة الحقيقية، وكأننا أشباح للقدماء، لا رأي لنا أو إرادة.

لا توجد تجربة حديثة استطاعت التقدم في القرن العشرين رددت نخبتها تلك الأفكار، ولا توجد أيضاً تجربة نهضت إلا وكان وراءها مفكرون يؤسسون بنية معرفية قوية للتقدم، وهنا لا مفر من السؤال: هل يكمن لغز تقدم العرب في أنهم يعيشون في الماضي بالفعل، أم في نخبة تحتاج إلى أفق جديد؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"