تحديات واستجابات

01:07 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. يوسف الحسن

* من الصعب أن تُدرك الأجيال الشابة، من أبناء الإمارات، أبعاد رؤية المغفور له الشيخ زايد، طيب الله ثراه، في الحكم والسياسة، وإدارة التنوع المجتمعي، والعلاقات مع الآخر في الإقليم وخارجه، بدون أن تعرف وتستوعب نوع وحجم التحديات، التي تعاملت معها هذه الرؤية الحكيمة قبيل تأسيس الدولة الاتحادية، وبعدها، وبخاصة في عقديها الأول والثاني، وكيف قادت سفينة الوطن إلى بر الأمان والنهوض والازدهار.
* من عاش السنوات القليلة التي سبقت ولادة الاتحاد، لابد أن يتذكر المشهد العام لهذه المنطقة العربية على ضفتي الخليج والمحيط في السياسة والاقتصاد والعمران والصحة والتعليم ونوعية الحياة.
* وأستطيع بكل ثقة أن أقول إن العامين الأخيرين من الستينات، والعام الأول من السبعينات، هي أطول أعوام تاريخ المنطقة، لأن فيها تقرر مسار إمارات الساحل، بعد الانسحاب البريطاني، الذي هيمن عليها نحو قرن ونصف القرن، وسط ظروف صعبة ومعقدة، وقوى وإرادات متصادمة، ونوازع مشدودة ما بين حكم قبيلة واستقلال إمارة، وبين إرادة توحيد لإمارات متفرقة.
* وما أكثر الأسئلة التي انهالت في الأسابيع الماضية عليّ، وعلى زملاء وقامات كبيرة، عاصرت وعاشت تجربة التأسيس وتحدياتها، وما تلاها من سنوات، وكلها تصب في معرفة أبعاد هذه التحديات، وكيف استجابت لها القيادات المؤسسة من الرعيل الأول، وتعاملت معها بصبر وحكمة ورؤية نافذة.
* كان هناك إرث ثقيل من التخلف والعزلة المفروضة والتجزئة، فضلاً عن نزاعات قبلية وحدودية، وغياب للبنية التحتية و«الفوقية» وللجيش الوطني، ولمؤسسات حكم حدثية (سوى أدوار متواضعة لبلديات فقيرة في مواردها وكوادرها).
* لم تكن هناك تجربة اتحادية تاريخية في المنطقة، يمكن إعادة إنتاجها أو القياس عليها، وكانت الولاءات تتجسد في القبيلة أو الإمارة، من أجل التعاضد الاجتماعي والحماية، وهي ولاءات عصبوية، كما غابت المركزية والنظم والقوانين الناظمة لها.
* كان الخليج بحيرة بريطانية، من ناحية، وتحت رحمة «شرطي الخليج» وطموحاته وعصاه الثقيلة وتهديداته من ناحية أخرى وحيث كان شاه إيران، هو المعتمد لدى القوى العظمى المسيطرة في النظام الدولي آنذاك.
* وكانت هناك تعقيدات شائكة إقليمية، ومصالح متضاربة تحكم جميع الأطراف، إقليمياً وعربياً، وإشكاليات وخلافات حدودية عربية مجاورة، بعضها علّق اعترافه بالدولة الاتحادية، حتى تتم تسوية هذه الخلافات، ورأت دول عربية أخرى في قيام الاتحاد «صناعة بريطانية»، وقال آخرون باستحالة أن يكون هذا الاتحاد قابلاً للحياة أو للتطور.
* وكانت إمارات الساحل، في معظمها، منطقة «طاردة» حتى لبعض أهلها، وليست «جاذبة» كما هي الآن، هاجر بعض من أهلها إلى المنابع النفطية الجديدة في الكويت والسعودية، بحثاً عن عمل.
* وكان السؤال الأصعب في ذلك الوقت، والإجابة عنه تسابق الزمن: كيف نبني دولة اتحادية من الصفر؟ وهو صفر مُثقل بمواريث وعوامل محبطة ثقيلة؟ كيف نخلق مؤسسات وإدارات حديثة، بكوادر بشرية مؤهلة؛ وحيث لم يكن عدد خريجي الجامعات يزيد على خمسة وأربعين خريجاً؟ وكيف (تُصنِّع)، إذا جاز هذا التعبير، الطبيب والمهندس والقانوني والإعلامي والدبلوماسي والمعلم والإداري والتربوي...إلخ؟ وكيف تؤلف جيشاً موحداً، وترسم سياسة خارجية مستقلة، بعيدة عن الاستقطاب؟ وكيف تُحفز الدول الأجنبية على الاعتراف بهذا الوليد الجديد؟ وكيف تنقل هذا المجتمع من ذهنية القبيلة إلى رحابة الدولة والقانون، وتحرر الناس من اقتصاد الكفاف والفقر، وتحوّل الولاءات الفرعية إلى ولاء للكيان الاتحادي، وبآليات طوعية، وعلى قواعد دستورية؟
* وكيف تُمكّن الناس من الانخراط في سيرورة «تشكّل» شعباً بالمعنى السياسي والقانوني، وتحقق اندماجاً وطنياً، وتوازناً إنمائياً بين الإمارات التي شكلت هذا الاتحاد؟ وكيف تصوغ دستوراً مناسباً للأوضاع الداخلية، ويتحدث لغة العصر، وتبني نظاماً سياسياً يوفق ما بين مصالح ومطالب كل إمارة، وتعالج بحكمة إشكاليات الحدود في الداخل ومع الجيران، وتتعامل مع احتلال لجزر ثلاث من تراب الوطن المتحد الجديد، جرى قبل يومين من إعلان تأسيس الدولة، ومن انتهاء ما سمّي بالحماية البريطانية؟
* وكيف تحقق مبدأ «القيادة الجماعية» في النظام الدستوري من خلال مجلس أعلى للحكام، كسلطة عليا، وفي الوقت نفسه، تُقيد سلطة الإمارة في عقد اتفاقيات خارجية محدودة في أطرافها وفي موضوعاتها؟
باختصار..
كانت التحديات هائلة ومعقدة، ومن حسن الطالع، كانت القيادات الطليعية، وتلاحم الشعب معها، على مستوى الاستجابة لهذه التحديات.
* لم تكن الطرق نحو المستقبل سالكة، لكن إرادة الإنسان كانت قوية، ووعي القيادة المؤسّسة لظروف المكان والزمان، كان عميقاً.
* امتزجت هذه الإرادة بالحكمة في التعامل مع ثروة هي من نعم الله، وبقيادة أحبت شعبها، وبادلها هذا الشعب حباً وولاء، وملكت رؤية صائبة، وحكمة ونخوة تلقائية، واسترشدت بمعايير الخير العام، وبالتوازن والاتزان في إدارة علاقاتها الخارجية، وبمرجعية أخلاقية وإنسانية، وبوصلة رشيدة في تدبير الحكم وإدارة الناس، وضبط النفس والرشد والحيطة، وبناء الصداقات في البيئة الدولية.
* نستذكر اليوم تلك التحديات، وكيف كانت الاستجابات الفاعلة لها، ونتذكر أنه بقدر ما للتاريخ من شهود، له صانعوه المنهمكون دوماً في صناعته.
* وكان المغفور له الشيخ زايد من هؤلاء الذين صنعوا تاريخاً جديداً للمنطقة.
* في كل يوم، نجدد الوفاء لروح القائد المؤسس، ونستحضر ذكراه ونترحم عليه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"