عادي
الأيديولوجيات المتطرفة استهدفت المعرفة

حرب إبادة شنّها الإنسان على الكتب

00:33 صباحا
قراءة 4 دقائق

الشارقة: يوسف أبولوز
فتكت الحرب العالمية الأولى «1914- 1980» بنحو 37 مليون إنسان بين قتيل وجريح، وبعض الأرقام تقريبية، قد تزيد أو تقل، وكذلك مات في الحرب العالمية الثانية «1939- 1945» من 50 إلى 85 مليون إنسان، أما الأوبئة الكارثية مثل الطاعون والكوليرا والحصبة والجدري فقد قتلت الملايين أيضاً وجميعها إحصاءات تقريبية، وينشغل الإحصائيون أيضاً بضحايا الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والبراكين بوضع أرقام موثوقة أحياناً، ولكن ما من مركز بحوث مُعْتمد وضع لنا حتى الآن، ولو بشكل تقريبي كم أبيدت وأحرقت وأغرقت مئات الآلاف أو الملايين من الكتب، ومن المسؤول عن مذابح الكتب وإبادتها في العالم.

الباحثة والأكاديمية الأمريكية ربيكا نوث تضع كتاباً من 320 صفحة من القطع الكبيرة في هذا الشأن الذي يهم الكتّاب والقرّاء والناشرين والمكتبيين البسطاء الشعبيين وكل من له ولع شخصي أو ثقافي بالكتب.

كتاب «إبادة الكتب = تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين» نقله إلى العربية المترجم المصري عاطف سيد عثمان ويدلنا إلى جرائم أو نوع من الجريمة التي ربما لم تدرّس في كتب القانون، ولم تدخل في تشريعات قضائية مباشرة، فمن ذا الذي يرفع دعوى قضائية على فرد أو مؤسسة أو حزب أو دولة أو طاغية بتهمة إبادة كتاب؟؟

ولكن المشكلة في الجرائم الموجهّة إلى الكتب أنها لا تتعلّق فقط بالإنسان المتوحش أو المتنمّر على المكتبات والكتب؛ بل الطبيعة أيضاً شاركت الإنسان في القضاء على الكتب - الفيضانات، مثلاً التي تجتاح المكتبات.

تقول نوث إنه في عام 1988 التهمت نيران مدمرة زهاء 3.6 مليون كتاب في مكتبة أكاديمية العلوم في ليننجراد، وفي عام 1943 سكبت القوات الألمانية الغازولين بطريقة ممنهجة كما تقول الباحثة في كل غرفة من غرف مكتبة الجمعية الملكية في نابولي، وأشعلت النيران فيها بإلقاء مقذوفات يدوية عليها؛ انتقاماً لمقتل جندي.

دائماً ترتبط الأحداث التاريخية مثل الحروب التي بدأنا بها هذه المادة بأحداث تتعلق بإبادة الكتب، لكن الأمر لا يتعلق بحرق كتاب من أجل مقتل جندي؛ بل هناك بعد ثقافي أيديولوجي لا يمكن تجاهله في مثل هذه الصراعات الكبرى- تقول نوث: «كانت ألمانيا النازية صريحة وواضحة بشأن استخدامها للعنف بوصفه سلاح حرب لاستهداف الثقافة ومثلها كانت اليابان الإمبريالية».

تتماثل الإبادات العرقية والإثنية مع إبادة الكتب: «الإبادة الإثنية التي نفّذتها الصين في التبت، والتطهير الإثني للمكتبات في يوغسلافيا المفككة 1991-1999».

أيديولوجيات سياسية لها صلة أيضاً بإبادة الكتب، وأنظمة سياسية أحادية تماماً وشمولية قد ترفع شعارات إنسانية برّاقة وعناوين جاذبة مثل الحرية والعدل والمساواة، ولكنها في لحظة سريعة فارقة لا تتورّع عن مصادرة الكتب أو فرمها أو حرقها أو إبعاد ونفي وتصفية مؤلفيها.. تقول نوث بكل وضوح: «.. في مناخ سياسي قائم على الأيديولوجيات يجب أن يتطابق كل من السلوكين الفردي والسياسي مع نمط شامل من المعتقدات الأخلاقية والإدراكية. فالقراءة والبحث من وجهة نظر المتطرفين السياسيين، على سبيل المثال، نشاطان سياسيان، وغرضهما تعزيز الغايات الأيديولوجية..».

حرب أيديولوجيات تنطوي بالطبع على (حرب ثقافية) في مقابل حروب جيوش على الأرض. في عام 1940 احتلت القوات الروسية دول البلطيق: إستونيا ولاتفيا ولتوانيا، كما تشرح الباحثة، «وطهّرت مكتبات بيع الكتب والمكتبات العامّة فحرقت الكتب غير المقبولة وحظرت 4 آلاف كتاب وكتيّب في إطار عملية تحويل البيئة الثقافية لتتفق مع المعتقدات الشيوعية»، ولكن انظر ماذا جرى بعد عام واحد فقط من هذا التحويل الأيديولوجي.. «في عام 1941 اجتاح النازيون هذه الدول فتخلّصوا من المواد الشيوعية وأخضعوا المطبوعات والمؤسسات الثقافية للمعتقدات النازية..». أحياناً تكون الكتب ضحية أصحابها، وذلك، عندما يقوم شخص بحرق مكتبته أو بعض من كتبها الممنوعة أو تلك التي قد تسبب له السجن أو الاعتقال بسبب الأفكار الواردة فيها.. «.. خلال الثلاثينات شنّ رجال الشرطة والنازيون حملات على المنازل وصادروا الكتب لاسيما عن الاشتراكية والسندات المالية والمراسلات الشخصية والمكتبات الشخصية الكبيرة، وأشياء نفيسة غير الكتب والمطبوعات، ودفع الخوف من حملات تفتيش المنازل كثيراً من الناس إلى إحراق أوراقهم وكتبهم ومكتباتهم بأنفسهم..».

تأجيج الكراهية

الحقد والانتقام يؤججان الكراهية، والكراهية تؤدي إلى الحروب، وقد شهد تاريخنا المعاصر مثل هذا العنف الانتقامي في الصراع بين الصرب والكروات، والضحية كانت الكتب والمكتبات.. انظر إلى هذه الحصيلة من موت الكتب في القصف الذي تعرّضت له دوبرفنيك.. «قصفت مكتبة زادار البحثية بكثافة وقد كانت تضم بين جنباتها 600 ألف مجلد، و5566 مجلة فصلية، و926 صحيفة، و33 كتاباً طبع قبل عام 1500 ميلادية و1080 مخطوطاً، و370 رِقّاً و1350 كتاباً نادراً» والقائمة تطول من الخرائط والصور الفوتوغرافية، والمدوّنات الموسيقية، وفي هجوم للجيش الصربي على الدير الفرنسيسكاني احترق 17 ألف مجلّد يمتد تاريخها من القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر، وفي مكان آخر تقول الباحثة: دمّر الصرب بقصفهم المعهد الشرقي في سراييفو في عام 1992 أكبر مجموعة مخطوطات إسلامية ويهودية ووثائق عثمانية في جنوب شرق أوروبا.

ثقافة الانتقام

تبقى الكتب ضحية للتطرّف والعنف وثقافة الانتقام شأنها في ذلك شأن الإنسان و«في ظل الأنظمة السياسية المتطرّفة، جميع الكتابات تكون في خدمة تلقين الأيديولوجيا، أما النزاهة الفكرية، بما فيها التفكير الموضوعي في الأدلّة، فتصير مهزلة»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"