اختفاء الأفكار

00:34 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يحلو للمؤرخين والمفكرين توصيف مناخ فترة ما، بإطلاق اسم يميزها عن غيرها، يعبر عن أبرز تحولاتها وسماتها الأساسية، فقرأنا لدى البعض عن «قرن العنف»، عند الإشارة إلى القرن العشرين، أو عصر العولمة لوصف تقلبات العقد الأخير من القرن الماضي، وطالعنا العديد من النماذج المماثلة حتى في الآداب والفنون، ولكن ماذا عن العشرين سنة الأولى من القرن الذي نعيش فيه؟ هل هناك ما يميزها بطابع خاص؟

  إن محاولة فهم سمات أي فترة تاريخية للوصول إلى روحها، يتأسس على ضرورة أن تكون هذه السمات واضحة ومؤثرة بقوة في سلوك البشر ورؤيتهم للعالم، ويبدو للوهلة الأولى أننا نعيش في عصر التكنولوجيا فائقة الحداثة، وهنا سنجد أنفسنا أمام حزمة من التناقضات، فهذه التكنولوجيا التي أنيط بها أن تقرّب بين البشر عبر التواصل اللحظي، أصابت العلاقات الحميمية في مقتل، وأصبح الحب، وحتى اللقاء من أجل البوح المشترك بين الأصدقاء من قيم الماضي، أما الآمال التي علقناها عليها في أن تشيع المعرفة وتنزلها من عليائها لتتجول بين الناس، فأُحبطت مع ذلك الجهل غير المسبوق والمعلن عنه في مختلف وسائل التواصل. 

وإذا انتقلنا إلى أحلام الكثيرين في أن تمنح التكنولوجيا كل فرد فرصة للتعبير عن رأيه فتحول إلى شعبوية فجة لا علاقة لها بأي حوار ديمقراطي. 

   لم تكن مخرجات التكنولوجيا فعّالة أيضاً، بالنسبة إلى النخبة، فذلك السيل اللانهائي من المعلومات المتوافر الآن لم ينعكس في أي عمل ثقافي، أما تقنيات التصوير الخرافية فلم تنتج فناً يضاهي ما قدمه المبدعون في السابق.

  ولا تقتصر الصورة السابقة على التكنولوجيا وحسب، فإذا تأملنا في توقعات العلم مثلاً، سنلاحظ تلك الوعود الصاخبة بمستويات غير مسبوقة من التقدم، وهناك من تحدث عن إمكانية الوصول بمتوسط عمر الإنسان إلى مئتي عام، وجاءت جائحة كورونا لتكشف أن قطاعاً كبيراً من البشر تنقصهم أساسيات الرعاية الصحية، أما تداعيات الفيروس الاقتصادية فتعيد الذاكرة إلى رؤى الكثير من المحللين في بدايات القرن بأن العالم لن يشهد أزمات اقتصادية مماثلة لما حدث في ثلاثينات القرن الماضي ، وهو ما ثبت خطأه، ليس بسبب «كورونا» وحسب، ولكن في أزمة 2008. 

وإذا واصلنا في الجانب الاقتصادي من الصورة، فسنعثر على تناقض جديد يتمثل في تآكل الطبقة الوسطى في الكثير من بلدان العالم، فالحياة المرفهة التي تروج لها الدراما والإعلام تخفي واقعا مأساويا للملايين الذين يعانون من الفقر.

  تعم المفارقات مختلف جوانب الحياة في العقدين الأخيرين حتى في ما يتعلق بالمقبل، فبرغم حديث العلماء المبشر عن المستقبل، تسود ثقافة تؤكد على ضرورة أن نعيش كلية في الحاضر، من دون وجع الرأس بما سيأتي به الغد. هذه المفارقات أصابت الكثيرين بالتوتر والقلق، نتيجة لعدم القدرة على تفسيرها، أو فهمها.

   لقد بدأ القرن الحالي بإعلان نهاية الأفكار الكبرى، ولعل السمة الأساسية التي يمكن رصدها الآن بعد مرور عقدين، أننا لا نستطيع تلمس أي فكرة واضحة سواء كانت كبيرة أو صغيرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"