العامية في خطر

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يعتبر النهوض باللغة العربية من القضايا شبه الدائمة على أجندة الدارسين والمفكرين العرب، والذين حللوا حال العربية في الإعلام والتعليم ومختلف جوانب المنتج الثقافي، ولكن ما لا يتطرق إليه أحد، ويبدو غائباً عن المشهد البحثي يتمثل في عدم الاهتمام باللهجات العامية في مختلف البلدان العربية، هذه اللهجات التي تتدهور كل يوم.

الملاحظة الأهم في حقول بحوث الفصحى أنه لا توجد لدينا دراسات تربط بين اللغة والوضع الطبقي، كما أنجزها باحثون في لغات أخرى، وهذه الملاحظة ضرورية للغاية لفهم التقلبات التي تعانيها العامية الآن. فالعامية وسيلة الانخراط في الحياة، وهي مؤشر مهم على مستوى الفرد الطبقي والتعليمي والثقافي، ولذلك نجد مثلاً أن الطلاب العرب الذين يدرسون بلغات أجنبية يتحدثون تلك اللغات في حواراتهم اليومية مطعمة بمفردات عامية «ركيكة»، أما الطبقة الوسطى التي يعكف شبابها على مواقع التواصل فسنجد أفرادها يكتبون عامية «رديئة» عبارة عن خليط من الفصحى والدارجة واللغات الأجنبية، أما الفقراء وأبناء المناطق المهمشة فيتكلمون بعامية «لا تُفهم أحياناً» تتسم بالسرعة، ولكن إذا كانت للغة العربية موسوعات ومعاجم وقواعد وتراث، نستطيع من خلالها تقييم حالها، فكيف يمكن القول إن العامية في انحدار مستمر؟.

إن كل متابع للسينما والدراما وحتى بعض الأعمال الأدبية، سيدرك أن العامية في خطر، ما نسمعه الآن من عاميات عربية في الأفلام والمسلسلات يتسم بالرداءة، حتى لا نقول الجلافة وافتقاد الذوق؛ بل هناك بعض المفردات المرفوضة أخلاقياً. 

أما ما نقرأه في كثير من حوارات الرواية الراهنة ومواقع التواصل فأغلبه مكتوب بعامية تنفر القارئ، ولنتذكر هنا سينما ودراما وأغاني عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، ولنتذكر كذلك، حوارات كتبها أبرز روائيي تلك العقود بالعامية، واعتبرها بعض النقاد «عامية مُفصّحة»، ولنقارن بين شعر العامية آنذاك وشعر العامية الراهن، هذا إضافة إلى اشتقاقات عامية على مدار الساعة، وتعبر عن تحولات اجتماعية جوهرية، وهي اشتقاقات تفسر صعوبة التفاهم أحياناً بين أجيال مختلفة تعيش في البلد نفسه. 

اللغة الفصحى ليست في خطر، ولا خوف عليها، فمهما تراجعت فهي محفوظة بفعل الكثير من العوامل، أما نهوضها الحقيقي فيعود إلى نهوضنا نحن أولاً، فلا يمكن للغة أن تتبوأ موقعاً محترماً في العالم ومنتجها الثقافي والمعرفي بالوضع الذي نعرفه جميعاً، ولا تضيف أي جديد في العلوم التطبيقية. 

العامية منجم معرفي للباحث، وعلى علاقة مباشرة بحزمة من العلوم، فمن يقترب من دراستها عليه أن يقرأ في التراث الشعبي، ويلم بمناهج علمي الاجتماع والنفس، وينخرط بقوة بين الشباب على اختلاف مستوياتهم، وعليه أن يتابع تحول العامية خلال قرن على الأقل، ليعرف متى تشتق المفردة، ولماذا، وما هي الحاجة المجتمعية التي تدعو إلى ابتكار كلمات جديدة كل يوم. 

ربما يكون الارتقاء بالعامية أحد أدوات النهوض بالفصحى نفسها، فحب اللغة يبدأ عندما تُطرب الأذن، فيشغف العقل والقلب معاً باللغة القومية الأم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"