التاريخ أسير الحاضر

00:27 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

التاريخ لا يكتبه المنتصرون فقط، ولكن يسهم مناخ العصر أيضاً في منح هذا العامل أو ذاك دور البطولة في مسار الأحداث. في الفترة الأخيرة تعددت الأطروحات التي تحاول تفسير التاريخ من زوايا نظر جديدة، ولم يعد الفرد أو الفكر أو التحولات الاقتصادية الاجتماعية مفاتيح أساسية في تحليل الوقائع، أصبحنا نقرأ عن التغيرات الديمغرافية والمناخية وحتى الاختراعات بوصفها عوامل حاسمة أدت إلى هذه النتيجة أو تلك.

لم تشتعل الثورة الفرنسية بسبب أفكار فولتير وروسو ومونتسكيو فقط، ولكن العامل الحاسم الذي أدى إلى اندلاعها تمثل في تغيرات مناخية امتدت لفترات طويلة أثرت بالسلب في الزراعة هناك، ما أدى إلى حالة من السخط، نتج عنها تلك الثورة، ليس هذا وحسب، بل لم تعد تلك الثورة أيضاً حدثاً مركزياً في التاريخ الغربي، ففي كتابه «كيف وصلنا إلى الآن؟»، يعتبر المفكر الأمريكي ستيفن جونسن أن أول مكالمة هاتفية أجريت بين ضفتي الأطلسي في عام 1943 أهم بالنسبة للبشر من الثورة الفرنسية. لقد أدخلت هذه المكالمة العالم إلى عصر جديد غيّر الحياة بصورة تفوق أفكار الثورة الفرنسية، وهو عصر الاتصالات الكونية الذي نعيش آثاره الآن.

في تلك الأطروحة وغيرها نجد أنفسنا نعيد التفكير في العوامل التي حركت التاريخ، ودفعت البشر إلى الأمام، فضلاً عن دخولنا في دائرة التفضيل بين تلك العوامل، وهو تفضيل سيجد أي قارىء نهم للتاريخ نفسه متورطاً فيه، فهل أفكار مثل الحرية والإخاء والمساواة أقل أهمية من تكنولوجيا التواصل مع البشر؟ هذا التفضيل وما تبعه من سؤال نتيجة لعقود طويلة كنا نمنح فيها الأفكار والعوامل الاقتصادية أولوية مطلقة عند تفسير الأحداث.

إن محاولات تلك الأطروحات التي تصعد بعوامل جديدة حاسمة في التاريخ ما هي إلا استجابة لمناخ العصر أكثر من كونها نتائج علمية قاطعة، فحتى القرن التاسع عشر تقريباً، كانت معظم الكتابة التاريخية تمنح بطولة الأحداث للفرد: القادة والزعماء وكبار السياسيين أو للأفكار، ولكن مع تطور غير مسبوق في علم الاجتماع خلال هذا القرن ومع الماركسية أصبحت البطولة من نصيب العوامل الاقتصادية والصراع بين فئات المجتمع. من هنا يجب فهم أن الأطروحات التي نقرؤها الآن تتأثر بشدة بمناخ عصرنا، فالثورة التكنولوجية غير المسبوقة لا بدّ أن تلفت نظر المشتغل بالتاريخ إلى دور الاختراعات في مسيرة الإنسان، وصعود الجماهير الغفيرة عبر مواقع التواصل، والزيادة السكانية غير المسبوقة على مستوى العالم والهجرة والنزوح، كلها عوامل تدفع المؤرخ إلى البحث عن دور أساسي للتغيرات الديمغرافية في مسار الأحداث، والأمر نفسه ينطبق عن قضية الساعة الآن، ونعني المناخ.

أما السؤال الإشكالي والأبدي والذي يطرحه القراء والمهتمون دائماً: ما هو العامل الحاسم في التاريخ؟ يبدو أن إجابته لا تتعلق بالعلم، وإنما تختلف من عصر إلى آخر وفق طبيعة الظروف وبحسب تكوين وقناعات المؤرخ والأهم قضايا زمنه التي تؤثر بقوة في تحليلاته، فالمؤرخ لا يكتب عن الماضي إلا وهو أسير الحاضر بتحولاته المختلفة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"