عادي

الصدق في مواجهة الكذب والادِّعاء (2-2)

23:04 مساء
قراءة 4 دقائق
1

لم يشهد التاريخ الإنساني رجلاً عظيماً مثل رسولنا الكريم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يكن صاحب رسالة عظيمة وحسب، وإنما كانت سيرته ومسيرته التي امتدت نحو ثلاثة وستين عاماً، أنموذجاً فريداً لرسول عظيم، ونبيٍّ كريم، وقائد مُلهَم، وإنسان بلغ من الصدق والأمانة والرأفة والرحمة والتسامح مع الآخر مبلغاً لم يصل إليه أحد من العالمين، ولِمَ لا وقد قال الله في شأنه: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4 5]

لم يعرف الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حياته كلها إلا الصدق، حتى قبل بعثته الشريفة، ولذلك وضع، صلى الله عليه وسلم، دستور الحياة القائم على الصدق، فقال: «عليكم بالصدق؛ فإنَّ الصدق يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنة، ومايزال الرجلُ يصدق ويتحرى الصدقَ حتى يُكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب؛ فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ومايزال الرجلُ يكذب ويتحرى الكذبَ حتى يُكتب عند الله كذَّاباً».

وليس أدل على اتصافه، صلى الله عليه وسلم، بالصدق، وأنها صفة أصيلة فيه، من قصة وضع الحجر الأسود في مكانه، عندما أرادت قريش إعادة بناء الكعبة، وما حدث من خلاف بين القبائل، أيها ينال هذا الشرف، فاتفقوا أن يحكم بينهم في هذا الأمر أول من يدخل من باب الصفا، فكان أول داخل هو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، وكان يومئذ في الخامسة والثلاثين من عمره، أي قبل البعثة، فقالوا جميعاً: «هذا الصادق الأمين رضينا بحكمه»، ثم قصّوا عليه قصَّتهم فقال: هلمَّ إلىَّ ثوباً، فأُتي به، فنشره، وأخذ الحجر فوضعه بيده فيه، ثم قال: ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من أطراف هذا الثوب، ففعلوا وحملوه جميعاً إلى ما يحاذي موضع الحجر من البناء، ثم تناول هو الحجرَ ووضعه في موضعه.

ويؤكد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أهمية قيمة الصدق في حياة الإنسان، في نصيحته لعبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، في قوله: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم». كما كان أحب الحديث إليه هو الحديث الصادق النابع من القلب، لا خداع ولا مِراء فيه، يقول، صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقه».

فأي رجل عظيم هذا؟ وأي رسول كريم! صدق مع نفسه، ومع ربه، من أجل أن يخرج الناس كل الناس من الظلمات إلى النور رغم كل ما عاناه من تكذيب وافتراءات، بل وعذاب واتهامات.

أراد أحدهم يوماً أن يقتله خنقاً وهو يصلي، فعن عروة بن الزبير قال: سألتُ عبدالله بن عمرو عن أشدِّ ما صنع المشركون برسول الله، فقال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء أبوبكر حتى دفعه عنه، فأنزل الله تعالى: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ». (غافر: 28).

ولم يقف أمر هؤلاء الكفار والمشركين عند حد، بل فاق إيذاؤهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كل حد، خاصة بعد موت عمِّه أبي طالب، فيروي ابن هشام في سيرته، أنه لما مات أبوطالب نالت قريشٌ من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش، فنثر على رأسه تراباً، فلمَّا دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيته والتراب على رأسه، قامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله يقول لها: «لا تَبْكِي يَا بُنَيَّة؛ فَإِنَّ اللهَ مَانِعٌ أَبَاكِ».

لقد صدق رسول الله مع ربه، حتى أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، وقد تحمَّل في سبيل صدقه هذا، ما لم يتحمله نبيٌّ قبله.

ونختم بشهادة أحد الكُتَّاب والمؤرخين غير المسلمين، حول صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي كان كلمة السر في بطولته، حيث يقول الكاتب المؤرخ الاسكتلندي توماس كارليل (1795-1881) في كتابه «الأبطال»: ‏«هل رأيتم قط أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد دِيناً عجباً؟ إنه لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب! كذبٌ ما يذيعه أولئك الكفار، وإن زخرفوه حتى تخيَّلُوه حقًاً، ومحنة أن ينخدع الناسُ شعوباً وأمماً بهذه الأضاليل». ويضيف: «على ذلك فلسنا نعد محمداً هذا قط رجلاً كاذباً متمنعاً، يتذرع بالحِيَل والوسائل إلى بغية، أو يطمح إلى درجة ملك أو سلطان، أو غير ذلك من الحقائق، وما الرسالة التي أداها إلا حق صراح، وما كلمته إلا صوت صادق، صادر من العالم المجهول، كلا، ما محمد بالكاذب ولا الملفق، وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة، فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وهذه حقيقة تدمغ كل باطل وتدحض حجة القوم الكافرين».

ويؤكد كارليل أنه «أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر، أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها الملايين الفائقة الحصر والإحصاء كذبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا، ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم مثل ذلك التصديق والقبول، فما الناس إلا بُله أو مجانين، وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة، كان الأولى ألا تخلق».

ويختم بقوله: «وإني لأحب محمدًا لبراءة طبعه من الرياء والتصنع، وكان ابنُ القِفار هذا رجلا مستقل الرأي، لا يُعَوِّلُ إلا على نفسه، ولا يدعي ما ليس فيه».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"