عادي

عدل لا يفرق بين مسلم وغيره

21:47 مساء
قراءة 4 دقائق
1

لم يشهد التاريخ الإنساني رجلاً عظيماً مثل رسولنا الكريم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يكن صاحب رسالة عظيمة وحسب، وإنما كانت سيرته ومسيرته التي امتدت نحو ثلاثة وستين عاماً، أنموذجاً فريداً لرسول عظيم، ونبيٍّ كريم، وقائد مُلهَم، وإنسان بلغ من الصدق والأمانة والرأفة والرحمة والتسامح مع الآخر مبلغاً لم يصل إليه أحد من العالمين، ولِمَ لا وقد قال الله في شأنه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4 5]

بالعدل يحيا الناس، وعلى العدل تقوم الأمم والأوطان، كما قال الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (النحل: ٩٠)، وقال عز وجل:«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» (النساء: 58)، وقال سبحانه لرسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم: «فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» (الشورى: 15).

وبالعدل أيضاً، أقام محمد بن عبد الله دولة، وأحيا أمة، كانت مضرب الأمثال بين الأمم والشعوب، قبل أن تنشأ المنظمات الدولية في أي دولة بالعالم، ولذلك جاءت السنة النبوية الشريفة مُرسِّخة لإقامة العدل في المجتمعات، وفي هذا يقول رسول الله: «المُقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين».

ومما يرسخ مفاهيم العدل والمساواة بين المواطنين جميعاً، ما روي عن السيدة عائشة، رضي الله عنها، «أنَّ قريشاً أهمَّهم شأن المرأة التي سَرقت في عهد النبي في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلِّم فيها رسول الله فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله، فأتى بها رسول الله، فكلّمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجه رسول الله، وقال:«أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟»، فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله فخطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال:«أما بعد: فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني، والذي نفسي بيده، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها».

حرص رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على تطبيق العدل في حياته، مع نفسه أولاً، ومع زوجاته أمهات المؤمنين، ومع أصحابه، وكذلك مع مَنْ يتولون شؤون المسلمين في مختلف بقاع الأرض، كما حرص على توريثه صحابته الكرام، وهم الذين قال في شأنهم:«أصحابي كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم».

ومن ذلك ما تذكره كتب السِّيَر والتاريخ أن عمر بن الخطاب، الحاكم الذي يُضرب به المثل في العدل، كان يأمر عمّاله بأن يوافوه بالموسم، فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيْئكم بينكم. فمن فعل به غير ذلك فليقم. فما قام أحد إلا رجل واحد قام، فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ عاملك فلاناً ضربني مئة سوط. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنّة يأخذ بها من بعدك. فقال: أنا لا أُقيد وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه. قال: فدعنا فلنرضه. قال: دونكم فأرضوه. فافتدى منه بمئتي دينار. كل سوط بدينارين. ويروى أيضاً أنه لما أُتي عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بتاج كسرى وسواريه، قال: إنَّ الذي أدَّى هذا لأمين، قال له رجل: يا أمير المؤمنين، أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله تعالى، فإذا رتعت رتعوا.

وورد أيضاً أن عليَّ بن أبي طالب، وهو أمير المؤمنين، تنازع مع يهودي على درع، فاحتكما إلى القاضي شريح، الذي قال: يا أمير المؤمنين، هل من بيّنة؟ فدعا مولاه قنبر، والحسن ابنه، فقال شريح: أمّا شهادة مولاك فقد أجزناها، وأمّا شهادة ابنك لك فلا نجيزها، فقال عليٌّ: سبحان الله! رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ فقال: يا أمير المؤمنين ذلك في الآخرة، أمّا في الدنيا فلا تجوز شهادة الابن لأبيه. فقال علي: صدقت، الدرع لليهودي. فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه! أشهد أن هذا الدين على الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين، سقط منك ليلاً. فأهداه أمير المؤمنين الدرع.

إنه ترسيخ لمبدأ:«الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» الذي وضعه رسول الله.

ومن صور عدله، صلى الله عليه وسلم، مع أهل الكتاب، أنه لما أَقْرضَ يهوديٌّ جابرَ بن عبد الله، وحان وقت السداد ولم يستطع، ذهب النبي لليهودي يستنظره لعله يؤجل، فرفض، فعاد وكلمه مراراً واليهودي يرفض، فأمر النبي جابراً بالقضاء».

إن العدل عند محمد بن عبد الله لا يفرق بين مسلم ويهودي ولا بين مسلم ونصرانيّ، ولا بين مسلم وكافر؛ ومن أمثلة هذا ما حدث عندما سرق رجل من المسلمين، من إحدى قبائل الأنصار، يقال له «طعمة»، من بني أبيرق بن ظفر بن الحارث، درعاً من جارٍ له مسلم يقال له: قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له: زيد بن السمين، فالتُمِسَتِ الدرع عند «طعمة» فحلف بالله ما أخذها، فقال أصحاب الدرع: لقد رأينا أثر الدقيق في داخل داره. فلما حلف تركوه، واتّبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي، فوجدوا الدرع عنده، فقال اليهودي: دفعها إليَّ طعمة بن أُبيرق!! فجاء بنو ظفر، وهم قوم طعمة، إلى رسول الله، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم، فهَمَّ رسول الله أن يعاقب اليهودي، معتقداً أنه السارق في بادئ الأمر لوجود القرائن ضده، ولكن الوحي نزل بخلاف ذلك؛ فأعلن صلى الله عليه وسلم أنَّ اليهودي بريء، وأن السارق هو طعمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"