عالم يخلو من المعنى

00:49 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تكمن مشكلة التكنولوجيا الأساسية في غياب المعنى؛ حيث أصبحنا نتعامل مع الأفكار والرؤى وحتى المشاعر بخفة وبسرعة، لم نعد نتروى ونتوقف لنتأمل ونتدبر ومن ثم نمنح الأشياء القيمة التي تليق بها، تلك القيمة التي تتراكم عبر التجربة والزمن لتضفي على العالم ومفرداته معنى ما يكسبه أهمية.

  لنأخذ مثلاً مفردة البحث العلمي والمعرفي، في الماضي كان الدارس يدور على المكتبات العامة وأسواق الكتب ليعثر على معلومة ما، وربما أمضى عدة أشهر بين الكتب والمراجع.. يحلل ويقارن ويدقق حتى يصل إلى نتائجه، التي لم تكن في أحوال كثيرة صائبة، فكثيراً ما قرأنا أن بعضهم قضى سنوات ليخرج علينا برأي مبني على معلومات صححها له بعد فترة باحث آخر وهكذا. الآن انتهت تلك العملية الطويلة والمضنية والشاقة، اختفى البحث القديم بأدواته، ومع غياب الأدوات تغيرت المفاهيم، وبات الجميع يذهب مباشرة إلى الإنترنت.

   في البداية شكك الكثيرون في المعلومات التي كنا نلجأ إليها في الشبكة، وبعد ذلك باتت الإنترنت المصدر الأول لمعلوماتنا، ولاحقاً لم يعد أحد يتعامل مع المعلومة بتلك الدقة التي تعود إلى الماضي، ثم استنسخ الجميع المعلومات نفسها، ولم نعد نعرف ما هو مصدر معظم المعلومات التي نتعامل معها على مدار الساعة. أي أن قيمة البحث عن المعلومة، التي اعتبرها البعض مقدسة، تراجعت حتى كادت تتلاشى، ورافق ذلك تغير لمعنى البحث نفسه، فالكل الآن يمتلك المعلومات، لكننا لا نعرف مصدرها الأصلي.

   إذا انتقلنا إلى قيمة مثل التضامن الإنساني، وهي قيمة يحلو لعشاق التكنولوجيا ترويجها باعتبارها قيمة «لم يعرفها البشر في الماضي». صحيح سنجد أن إنساناً في الصين ربما يتفاعل مع قضية ما في أقصى الغرب الأوروبي، لكنه في المقابل إذا رأى أحدهم مقبل على الانتحار في الشارع الذي يسكن فيه سيهتم بتصويره أكثر مما سيكون معنياً بمساعدته. هو تضامن ناتج عن الفرجة، فالتكنولوجيا تخاطب الحواس أولاً ولا تهتم بالعقل ولا تحفر في السلوك، ولذلك فهذا الشخص الصيني يتعاطف عبر الصوت والصورة مع مشكلة في أقصى الأرض، لكنه لا يلتفت إلى مساعدة جاره.

   لم تنج المشاعر بدورها من تأثير التكنولوجيا، لم نعد نلمس في أي منتج أدبي أو فني أثراً من رومانسية، فالمجتمع يعيش معظم وقته في واقع يتناقض مع الرومانسية على طول الخط ، ففي الماضي كان الحب يعتمد على الخيال وعلى التفكير لفترات طويلة في المحبوب، الآن المحبوب معنا على الخط،  مسموعاً ومرئياً، ولم نعد نمتلك تلك البرهة التي ننفرد فيها بأنفسنا ونُكسب من نحب كل السمات الرومانسية.

  تأثرت مفاصل الخيال المختلفة سلباً بالتكنولوجيا، واختفت الأطروحات الإبداعية في العديد من العلوم الإنسانية، وما يتم تداوله تكرار لرؤى قديمة، الأمر الذي يشبه زمن الانحطاط؛ حيث كانت تكتب الهوامش والشروح شارحة للأعمال التي انتجت زمن النهضة والازدهار. تشهد كل هذه الحقول تحولات تضرب فكرة القيمة في الصميم ما يجعلنا على حافة عالم شائك تتراجع فيه أهمية الحقيقة والمعنى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"