إشكالية التاريخ البديل

01:19 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

على كل من يريد أن يصف أي ممارسة همجية أو بربرية في العصر الحديث بأنها تترية أو مغولية أن يعيد التفكير، ولا بدّ أن تختفي من قاموس التعبيرات السياسية المجازية كلمات مثل: «مغول العصر» أو «إعصار تتري» عندما نصف الاستخدام المفرط للقوة أو احتلال أرض الغير، ذلك ما يطالب به المؤرخ الأمريكي جاك ويذر فورد في كتابه «جنكيز خان وصناعة العالم الحديث»، فالمغول لم يكونوا برابرة أو ضد الحضارة.

ينتمي الكتاب إلى ما يُعرف بأدبيات «التاريخ البديل»، ونقرأ فيه سرداً مختلفاً لصعود إمبراطورية المغول، وعلى الرغم من اعتراف المؤلف بأن المغول أخضعوا بلاداً وشعوباً في خمسة وعشرين عاماً أكثر مما فعله الرومان في أربعمئة عام، إلا أن غزواتهم نتج عنها تغيرات حضارية وثقافية لافتة.

قبل المغول لم تكن أوروبا تعرف أي شيء عن الصين، والعكس بالعكس، ولكن تمدد المغول ربط بين الحضارتين، وحّد المغول كذلك الشعوب السلافية في دولة واحدة، وحكموا منطقة تحتوي الآن على 30 دولة تضم ثلاثة مليارات نسمة، وأدى حكمهم إلى نشأة نوع من العولمة آنذاك، حيث ازدهر التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي، ومع حركة نقل البضائع انتشرت الأفكار وتلاقحت الثقافات، لقد غيروا وبعمق في البنية الحضارية في البلاد التي دخلوها، وبات العالم الحديث الممتد من الصين شرقاً إلى أوروبا غرباً يدين بجزء كبير من وجوده وتشكله المعاصر إلى المغول.

ولكن تبقى المشكلة قائمة في هذه الأطروحة وغيرها من أدبيات «التاريخ البديل»، فالذاكرة التاريخية التي تدين المغول، تركز أكثر على كمّ العنف الذي مارسوه خلال غزواتهم: المدن المحطمة والقلاع المهدمة والضحايا البشرية والمكتبات ودور العبادة المدمرة، كل هذا يرتبط بالمغول، فضلاً عن أنهم بالفعل لم يكونوا أصحاب حضارة أو أفكار، كانوا يتوسعون بحثاً عن الموارد وفي سبيل الحرب والهيمنة، وبعد أن استقروا في البلاد التي حكموها وهدأت فورتهم العسكرية بدأوا يعتنقون أفكار تلك البلاد، والهند أبرز مثال على ذلك.

تتحرك أدبيات التاريخ البديل في مسرح الأحداث بحرية مطلقة، وأحياناً ما تخلط بين الفعل ونتيجته، ما بين المقدمات والنتائج، الحدث وآثاره، ووفق منطق جاك ويذر فورد، هل يمكن الحديث بإيجابية عن النازية مثلاً؟ فالعالم الراهن بكل مكتسباته وتعقيداته نتيجة مباشرة لويلات الحرب العالمية الثانية، وهنا بإمكان مؤرخ آخر أن يطرح سؤالاً يصب في عمق فكرة «التاريخ البديل»، ماذا كان سيحدث لو لم يظهر المغول على الساحة العالمية؟ ربما استطاعت المنطقة التي تحركوا فيها أن تصل إلى كل هذا التطور من دونهم، هذا إذا سلّمنا جدلاً بصحة أطروحة ويذر فورد، والحال نفسه ينطبق على النازية، كان التطور سيحدث من دون مصائب وويلات العنف والدمار.

ربما اختلف مسار الأحداث وفق تفصيل هنا أو هناك، وربما اختلفت وتيرة وسرعة التطور، ولكنه كان سيحدث بالتأكيد، فالتاريخ يسير وفق مجموعة معقدة ومتشابكة من القوانين ولا يمكن أن تخضع أحداثه الكبرى لعنصر واحد حاسم.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y7emt35c

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"