عادي
قرأت لك

«سيح المهب»..سرد مسكون بروح المكان

14:56 مساء
قراءة 4 دقائق
-الناشر: اتحاد الكتاب ومجموعة أبوظبي للثقافة
قبل قراءة «نوفيلا» «سيح المهب» لناصر جبران، الطبعة الأولى 2007 والطبعة الثانية 2022، لا بد أن القارئ سيتساءل ما هو «سيح المهب»؟، أما «السيح» فهو «.. مدى وامتداد بين الانبساط الرملي والأرض الصلبة» والسيوح معروفة بنمو شجر السمر فيها وهو شجر شوكي صلب يقاوم الحرارة والرياح الصحراوية الجافة كما يصف القاص إبراهيم مبارك في كتابة له حول «النوفيلا» الذي يوضح أن المهب هي الرياح أو تحديداً رياح الصيف أو رياح المقيظ في الإمارات، ويقع «سيح المهب» في إحدى المناطق التابعة لمدينة الذيد في الشارقة، غير أن الرواية أو «النوفيلا» لا تدور أحداثها في «سيح المهب»؛ بل يجري جانب محدد من الأحداث في السيح، أما الأحداث المركزية فتجري في مولات حديثة ومدن حديثة أيضاً، كما يحضر البحر أيضاً في هذه النوفيلا.
تنتقل بعض مشاهد روائية أو سردية إلى «سيح المهب» هناك في الصحراء، فكأن ناصر جبران يريد أن يتنقل بسرديته إلى أفق مكاني تطهّري إن جازت العبارة، فالسيح هو مقابل مكاني صحراوي فطري أو مكان المدينة الذي يشهد شبكة علاقات انتهازية؛ بل فاسدة عن طريق شخصية ترد في النوفيلا بوصفها نموذجاً على الفساد الذي يقوم به البعض من الوافدين في بيئة محلية اجتماعية تحاول المحافظة على كينونتها الجوهرية الصافية.
*تطهر
في «النوفيلا».. أو في الرواية شخصيتان مركزيتان: حميد.. ابن البلد، الموظف الأمني الغيور على بلده، الذي يجد نفسه أشبه بالرادار وهو يتابع حركة وأمزجة الناس في المولات التجارية الكبرى، والمول رديف اصطلاحي إذا أردت القول لثقافة الاستهلاك السريعة التي تمثلها هذه المنشآت التجارية الكبرى، لكن المشكلة ليست هنا، إنها في الشخصية الثانية.. «آدم».. القادم متسللّاً وبلا أوراق قانونية إلى البلد، فيقيم «أولاً عامل مصعد في إحدى البنايات».. وتدور الأيام، يتعرف إليه حميد في أحد المولات بعد زمن، حين كان حميد في وظيفة أمنية حكومية، وقد أصبح آدم يسرح ويمرح في المولات والفنادق ومطارح الليل، وقد شوّه براءة المكان وبراءة المدينة، مدينة حميد، ومركز روحه وطفوليته.
هذا أحد مظاهر الصورة السلبية السوداء التي صنعها بعض الوافدين وليس كلهم، وشخصية آدم هي جزء من هذه الصورة وليس كلها.. قل إنه التطاول على المكان والناس. شيء ما هو النكران.. «.. من يبصق على النعمة لا يستحقها وهو متنصّل سريع الخيانة والتنكر أينما كان ولن يُرتجى منه خير لوطننا ولا لمسقط رأسه.. ووطنه ولا لإخوته من البشرية..». الصحراء «المتمثلة في سيح المهب» لم تطهّر آدم. ولم يطهّره المكان كله بما فيه من صحراء وبحر وجبل. وسوف يظل «حميد» رمز الطهر والأصالة والنظافة هو شاهد العيان: «.. في الممر الطويل واصل حميد سيره باتجاه صالات المطاعم، وقد ألمه كثيراً ظهور «آدم» ورؤيته له ثانية بعد مرور سنوات ما زاد من تمزقه وعذابه أن آلافاً من عيّنة هذا النصاب واللصوص والعملاء المأجورين أخذوا يتكاثرون مع مطلع هذا القرن، وتزايدت معهم أساليب الاحتيال والارتزاق». ولكن في المقابل دائماً هناك ما هو جميل.. «.. فيما أفئدة محبة أصيلة تزرع الورد وتعتني بالبراري والسهول المنبثقة من الأرض.. إنها مساحة الخير المنتظرة في الدمار المقصود..».
لقد أحببت، قاصداً، أن أتوقف عند هذا المشهد من حياة آدم المجرمة، ومن حياة حميد المتوترة التي تغالب الأسى والخديعة والكذب، لأنتقل بالقارئ إلى ما أبحث عنه عادة في قراءة الروايات سواء الطويلة منها أو القصيرة.. هنا مثلاً في نوفيلا ناصر جبران سألتفت إلى روح الصحراء وسوف تلتقي هذه الروح الرملية مع روح الشعر.. لنقف عند هذا الوصف.. «.. كان لون السدر والنخل وأشجار المانجو والليمون والحناء والفرصاد والموز يشع اخضراراً وبهجة في هذا الوسط والمدى الرملي من القفر المستبيح القاحل مثل شامة بارزة عطّرت خد الصحاري..».
إن قيمة الأدب الرفيع إنما تظهر واضحة عند تصويره روح المكان، ورموزه، وعلاماته.. هذه الرموز والعلامات التي تحيل بالضرورة إلى الكثير من الأخلاقيات والجماليات، مثل جماليات البيت وما فيه من حياة خصبة.. «.. كان وحده يجلس على طرحة اسفنجية مستطيلة، وعلى جانبيه وسائد، وتحت الطرحة سجادة فارسية استقرت فوقها وعلى مقربة منها صينية دائرية فضية تحمل بداخلها صحناً كبيراً من الفواكه، وصحناً أصغر منه يحمل كماً كافياً من التمر المغرّق بالدبس وحب السنوت والمثيبة والسمسم تجاورهما طاسة مملوءة بحليب النوق، وقريباً من جلسته تماماً هناك صينية بلاستيكية مستطيلة بها دلة قهوة مع فناجينها، وقد تطايرت من مصبها رائحة هال وزعفران..».
هذا هو البيت الإماراتي من داخله، وما هذا المقطع التصويري الحي الذي هو جزء من روح هذه الرواية القصيرة.. سوى إشارة على كرم أرواح الناس، وفطريتهم، وابتهاجاتهم العائلية أو الأسرية، التي يأتي نموذج طفيلي مثل «آدم» ويخدش كل ذلك ببساطة.
*قرية كونية
حميد.. رادار بصري يومي منذ أوّل نهاره وحتى آخره، مركزه المقهى الذي تحول إلى بؤرة شاهد العيان، فانظر كيف يصور المول التجاري من زاية ثقافية بالطبع وإن كانت صورة فوتوغرافية مباشرة.. «.. صوّب نظره للبشر الذي تنثرهم السلالم وتتلقفهم الممرات وتحضنهم المحال التجارية.. إنها ساعات الظهيرة، وهذا المركز يمثل ملاذاً للكثيرين، وعالمه المغلق بمثابة قرية كونية مصغّرة يمور بالحركة والنشاط.. هذا العالم الحاضن يشكل وطناً صغيراً لأفواج من البشر الباحثين عما يخلصهم من عوالقهم المنهكة أو يقربهم لنيل سعادة مفقودة.. عالم يختلط فيه الصالح بالطالح، وتتجاوز فيه الألوان، ويتشابك فيه الاصطناعي بالطبيعي».
غير أن «المول» الذي تنمو فيه عادة طفيليات مثل «آدم» ليس دائماً بؤرة مكانية مثل هذه الطفيلية.
إنه من زاوية ثقافية علامة مدنية، وعلامة جمالية معمارية أيضاً، إنه مجتمع تفاعلي، فيه تعايش ثقافات، وفيه ملتقى ألوان وعقائد وإثنيات وأديان هي معاً صورة إنسانية تكاملية في مجتمع الإمارات.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5b27phc7

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"