الحتمية الثقافية

00:30 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

بين فترة وأخرى تثار مسألة العلاقة بين الثقافة والتقدم، ويطرح في تلك المسألة العديد من الأسئلة حول إلى أي مدى تلعب الثقافة دوراً محورياً في تطور الأمم والشعوب؟ هذه المسألة كانت محور كتاب «الثقافة مهمة»، المُترجم مؤخراً، وأشرف عليه المفكران الأمريكيان لورانس هاريسون وصامويل هنتنغتون، ويضم الكتاب أبحاث ندوة نظمتها جامعة هارفارد. 

 تدور أبحاث الكتاب حول العديد من النماذج التي استطاعت النهوض خلال النصف الثاني من القرن العشرين. تستوقفنا مثلاً تلك المقارنة بين كوريا الجنوبية وغانا، اللتين كانتا متماثلتين في الكثير من العوامل خلال حقبة الستينات من القرن الماضي، ثم استطاعت كوريا الجنوبية أن تحدث طفرة نتيجة لعوامل ثقافية استطاعت أن توظفها في طريقها للنهوض والتنمية وهي النقطة التي فشلت فيها غانا إلى حد كبير.

 تلك الأطروحة ليست جديدة، وأعني تكرار فكرة أن الثقافة هي العامل الأساسي المنوط به التقدم، وهي أطروحة انتشرت في أعقاب انهيار المعسكر الاشتراكي في مطلع تسعينيات القرن العشرين، فلم تعد النماذج التفسيرية التي تحلل عوامل صعود وتراجع الشعوب تعتمد على الأسباب الاجتماعية أو الاقتصادية أو التشابكات السياسية والإقليمية، ولكن باتت المسألة ملقاة في ملعب الثقافة، فهناك ثقافات تختزن بداخلها عوامل التقدم وأخرى تنتشر في جنباتها أسباب التخلف التي تعيق كل خطط التنمية. 

 كانت الأطروحة تتناغم مع مناخ فكري أشاعته العولمة، يحتفي بكل ما هو ثقافي بينما لا يهتم، في الظاهر، بالاقتصادي أو الاجتماعي. 

 وقراءة موضوعية لمختلف التجارب تؤكد أن تلك الأطروحة تحتاج إلى إعادة النظر. صحيح أن الثقافة مهمة وتؤثر في إدراك كل شعب لموقعه ورؤيته للعالم والآخرين، ولكن مسألة التقدم معقدة وتتأثر بالدرجة الأولى بعوامل أخرى يأتي في مقدمتها حراك المجتمع والأوضاع الطبقية وإرادة النهضة نفسها التي يتحلى بها شعب في لحظة زمنية معينة، بينما لا يستطيع شعب آخر، لعوامل داخلية أو خارجية، أن يعمل من أجل تحقيقها.

 لعل النموذج الأبرز في هذا الإطار هو الصين، ذلك البلد الذي ظلت ثقافته لعقود وفق العديد من المحللين الغربيين لا تؤهله لكي ينمو أو يتقدم، وهناك كتاب لافت وشهير في هذه المسألة صدر في عام 2003، بعنوان «جغرافية الفكر» للأمريكي ريتشارد إي نيسبت، يؤكد فيه أن الصينيين يفكرون على نحو يتناقض تماماً مع طريقة التفكير الغربية، وبرغم تحليلات نيسبت وغيره نجحت الصين، برغم ثقافتها، وفي زمن قياسي في تحقيق معدلات نمو مدهشة وتزاحم الآن على قيادة العالم.

 عندما تكون الثقافة هي العامل الحاسم في مسألة النهضة أو التنمية، فإننا نحمّلها أكثر مما يجب، بل وستنتهي بنا الحال إلى مأزق النسبية الثقافية والذي وقع فيه الكثير من المفكرين العرب، الذين ركزوا على الثقافة في تحليلهم لمسألة التقدم، ووصلت بهم الحال إلى ما يشبه «الحتمية الثقافية» بمعنى أن لكل ثقافة قوانينها الخاصة والقدرية التي تجعلها تتجه إلى الأمام أو تنظر إلى الخلف، مع أن التجارب الراهنة أو التاريخية تتناقض مع تلك الرؤية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2mzy5jyh

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"