رسول الدهشة

00:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد عبدالله البريكي

لا ينفصل اختيار عنوان المجموعة الشعرية عن العملية الإبداعية، فهو جزء أصيل ومهمّ فيها، يتشكّل منها وتشكّله، ومن البدَهي أن لا يكون عربة الحصان التي تجرُّ حمولات الكتاب، قبل أن تتجمّع حشود القصائد في حقل الديوان الوارف بشجر المشاعر وأغصان المعاني وظلالها، ثمّ بعد أن تبدو الصورة مكتملة وجليّة، وتتشكل الثريات الأنيقة التي تتقدم كل قصيدة وتزيّنها، وتختصر ما تحتويه، يبدأ الشاعر بالتفكير في عملية هندسية إبداعية صعبة، قد تستغرق وقتاً من التجوال بين مرايا القصائد، والنظر في مرآة الأفكار، هذه العملية هي رسم العتبة الرئيسية، ويحاول الشاعر هنا أن يشكّلها بزخارف القول العميقة والسهلة في آن، فالعنوان أول ما تأتي العين عليه، وعنصر الجذب والدهشة؛ رسول المحتوى الذي يدعو إلى الدخول في مناخات الكتاب وتجليّات كاتبه، وله دلالات مختلفة متعددة، ووظائف مهمة، وهو الإعلان الرسمي الذي يغري به دور النشر أولاً، ثم القارئ، وهو في الأغلب، الآمر الناهي في تحديد هُويّة اللوحة الفنية، فهو يريد منها أن تنتسب إليه، وتناسب محتواه، وتعكس ما يختزله من معانٍ ودلالات، وهو ما يحرض الشاعر على أن يكون أميناً على هيئة مولوده «الكتاب» وشكله الذي سيظهر به ويخرج عبره إلى حياة القارئ.

يلجأ بعض الشعراء إلى اختيار عناوين قد تنفصل تماماً عن المحتوى، وهي لعبة إعلامية إعلانية، قد تغري القارئ في البداية، لكنها قد تكشف عملية خداع بصري، وربما تكشف بضاعةً رديئةً مغايرةً لجودة العنوان، ولذلك تجد في معارض الكتب ثريّاتٍ جميلةً أنيقةً مبهرةً، تخدع البصر وتجذبه إليها، وما إن يفتح الباب يجد ما لا يرى، ويصدم بأشجارٍ مصفرّة الأوراق، لا تثمر ولا تسمن ولا تغني الذائقة الفكرية، فتخفت لدى القارئ تلك الدهشة التي رسمها العنوان، فيبدأ بالانسحاب وهو يجرّ خلفه أذيال الندم والحسرة على دخول مكان لا يحترم فكره وطموحاته.

العنوان من وجهة نظري يجب أن يكون مكثفاً في دلالاته، مختصراً للمحتوى الكلي، وقد لا يأخذ وقتاً في عملية الاختيار النهائية، لأنه قد يكون نتيجة تراكمات عناوين لمجموعة القصائد التي تعب على بنائها وهندستها، ووضع لها عتبتها، فيأتي الشاعر وهو مسلّح بخبرات تراكمية، تسهم في تسريع عملية رسم العتبة وتنفيذها، وقد يأتي في لحظة مباغتة وهو يطير على غيمة من الخيال، يتعكز فيها الريح، تاركاً خلفه الكثير من الذكريات التي تساقطت كحبّات المطر على مائدة شهدت توقف أفكاره عليها وهو يشرب فنجان قهوة في مقهى الإبداع.

قد يباغت العنوان الشاعر وهو يمشي خلف أعمدة الإنارة في الشارع، فيتبعه بضوئه كما يتبعه ظله الذي يراوغ ضوء الأعمدة، وقد يدخل العنوان مع الشاعر إلى بيته، بل إلى خزانة أفكاره، فيجلس مدة متّكئاً على الوقت، ثم يبوح بسرّه إلى الشاعر، فيعلنه عنواناً أو عناوين يمايز فيما بينها، ويختار أكثرها قرباً من ذائقته الأدبية وخط كتاباته، وقد يأتي عن سبق ترصّد وقصد وتعمّد؛ وربما يأتي العنوان جميلاً بذاته، فيفرض نفسه على الكاتب ليضعه دون تفكيرٍ عنواناً عاماً وشاملاً، لمحتوى ما جمعه من جلدة كتابه الأولى إلى جلدته الأخيرة، وفي كل الأحوال لن يخرج عن ضرورات الإبداع والفن التي تنبعث من روح الشاعر التي نفخها في قصائده لتولد وهي تنبض بالحيوية والحياة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc7r8a7e

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"