كابوس الجوع

00:12 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

عندما نقرأ لتقي الدين المقريزي (1364- 1442) ما كتبه في «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، نشعر بأننا نشاهد الجوع يمشي بيننا، قريب على مرمى حجر. الجوعى في هذا الكتاب بشر من لحم ودم، حلمهم  أن يحصلوا على رغيف من الخبز قبل الموت جوعاً، يقول: «صار الخبز طرفة». يؤرخ الكتاب للمجاعات في مصر، ويتوقف بصفة خاصة أمام الشدة المستنصرية في الدولة الفاطمية والتي استمرت سبع سنوات وصل الحال فيها إلى أن أكل الناس القطط والكلاب.

يعتقد الكثيرون أن ما كتبه المقريزي وغيره ينتمي إلى الماضي البعيد، وأن الجوع أصبح ذكرى سيئة تثير الأسى، استطاعت البشرية تجاوزها، ولكن المجاعات لم تختف، وشهد القرن العشرين مجاعات راح ضحيتها الملايين، مثل المجاعة الأوكرانية التي وقعت بين عامي 1932 و1933 وأطلق عليها «وباء الجوع» وأدت إلى وفاة ما يقرب من 3 ملايين إنسان، والمجاعة الصينية الكبرى بين عامي 1958 و1961، والتي قتلت ما بين 15 و45 مليون إنسان.

في العقود الأخيرة بدا في الظاهر أن الجوع قد تلاشى، سبب ذلك ثقافة الاستهلاك التي نجحت العولمة أن تجعلها نمطاً يسود في معظم مجتمعات الأرض، فضلاً عن اعتقادنا أن العلم، وخاصة الهندسة الوراثية، قد حلّ مشكلة الجوع من خلال إنتاج غذائي، محاصيل وغيره، يكفي الزيادة السكانية المتلاحقة في مختلف البلدان، ولكن الأمور على الأرض لم تكن تسير على هذا النحو.

في العام الماضي، صدر تقرير الأمم المتحدة «حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم»، والذي يذهب إلى أن عدد الجوعى شهد زيادة ملحوظة في عام 2020، ووصل إلى ما يقرب من 10 % من سكان العالم ، ويمنحنا التقرير صوراً متعددة من الجوع، فهناك 45 مليون طفل يعانون الهزال الشديد، بالإضافة إلى عجز3 مليارات شخص عن تحمل كلفة نظام غذائي صحي.

أدى فيروس كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية، إلى ارتفاع النسب السابق الإشارة إليها كما يشير البعض، ولكن الأمم المتحدة لم تصدر تقريراً جديداً.

 الآن نحن نقرأ بصورة دورية عن أزمات الغذاء، وذكر تقرير لشبكة «بي.بي.سي» نُشر منذ شهر تقريباً أن نسبة معتبرة من المواطنين البريطانيين وبسبب التضخم لم يعودوا قادرين على استهلاك أغذية أساسية وضرورية، وبتنا نسمع عن بنوك الطعام هنا وهناك. ودخلت مسألة التغير المناخي في المسألة، فهناك من يرون أن ارتفاع درجات الحرارة سيؤثر بالسلب في إنتاج الغذاء.

الجوع في العمق وصمة في جبين البشر، فهو في النهاية ينتج عن سياسات تتحكم فيها طبقات لا يهمها إلا مصلحتها وتحقيق أعلى معدلات الربح، وكابوسه يتزايد في ظل هيمنة رؤية تلك الطبقات التي تحتفي بثقافة الطعام وكل ما يرتبط بها من منتجات ومطاعم ورفاهية، ثقافة تُظهر العالم وكأنه متخم، ولكنه في العمق يعاني «الجوع الروحي»، وهو جوع أكثر إيلاماً لإنسانيتنا من ندرة الغذاء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3e5xt2t7

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"