هل كان تراجع العولمة وراء ارتفاع التضخم؟

21:57 مساء
قراءة 4 دقائق

د. جاسم المناعي*
باستثناء السنوات الأربع أو الخمس الماضية، فإن العولمة كانت في أوج ازدهارها، خلال الأربعين سنة الماضية، حيث إن معظم، إن لم يكن جميع دول العالم، كانت تشارك وتنعم بحرية التجارة وانسياب عوامل الإنتاج من مواد وأفراد واستثمارات دون كثير من العقبات والعراقيل. كما أن شركات الإنتاج كانت تتنقل وتختار الأماكن والبلدان الأنسب لأنشطتها الاقتصادية، وفقاً للمزايا النسبية لهذه الأماكن والبلدان. وقد أدى هذا الوضع، من دون شك، بحرية التجارة وحركة عناصر الإنتاج ومختلف الأنشطة الاقتصادية، إلى ازدهار كبير لاقتصاديات دول العالم، كما أدى إلى تحسن واضح في الأوضاع المعيشية للدول النامية. وقد استفاد المستهلك في جميع دول العالم من توفر المنتجات والخيارات من عدة مصادر، ووفقاً لأسعار تنافسية ومعقولة. للأسف هذا الوضع، ومنذ أربع سنوات تقريباً، أخذ في التغير، حيث بدأنا نشهد تراجعاً في مسيرة العولمة، وقد تزامن مع هذا التراجع ارتفاع في مستويات التضخم، حيث حسبما يبدو، فإن هذا التزامن لا يعد من باب الصدفة؛ بل يرجع إلى أسباب مهمة وجوهرية سنحاول التطرق إليها بشيء من التفصيل.

أول هذه الأسباب التي أسهمت في تراجع العولمة، خلال السنوات القليلة الماضية، هو تفشي جائحة كورونا والتي عمت دول العالم خلال فترة ثلاث سنوات تقريباً من 2020 إلى 2022. وقد عايش العالم تداعيات تلك الجائحة من حيث الحد من حركة الأفراد، سواء داخل البلد الواحد أم عند تنقلهم للسفر من بلد إلى آخر. وقد ترتب على تقييد حركة الأفراد تقلص كبير في مستوى الأنشطة الاقتصادية وحجم التبادل التجاري، ما أدى إلى انخفاض ملحوظ في مدى توفر المعروض من المنتجات والسلع، انعكس في زيادة أسعارها وارتفاع مستوى التضخم. وقد فاقم من هذا الوضع أن دولاً عديدة اضطرت إلى إنفاق مبالغ كبيرة لتعويض المؤسسات والأفراد، الذين فقدوا الكثير من أنشطتهم الاقتصادية، بسبب الجائحة، إلا أن إنفاقاً مثل هذه المبالغ الكبيرة، أدى إلى زيادة مهمة في السيولة النقدية، مقابل حجم محدود من البضائع والسلع المتوفرة، ما نتج عنه زيادة إضافية في الأسعار، وتفاقم في موجة التضخم.

السبب الثاني في تراجع العولمة والذي بدوره أدى إلى ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم، هو في الواقع سبب سياسي يرجع إلى تصاعد النزعة الشعبوية التي تعادي الانفتاح، وتدعو إلى تقييد حرية حركة الأفراد وحرية التجارة، من خلال وضع مزيد من الإجراءات الحمائية. وقد استغل بعض السياسيين ما ترتب على العولمة من انتقال بعض الأنشطة الاقتصادية من أماكنها التقليدية إلى أماكن وبلدان جديدة أكثر تنافسية، وفقاً لقوانين المزايا النسبية. إلا أن ما ترتب على ذلك هو هجرة بعض المؤسسات والوظائف إلى أماكن وبلدان جديدة، وبالتالي خسارة البلدان التقليدية من هذه المؤسسات والوظائف. وفي الواقع، فإن خسارة البلدان التقليدية يرجع إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج لديها، كما أن من خسر وظائفهم في هذه البلدان، هم في الغالب الأقل تعليماً وأصحاب المؤهلات المتواضعة إلى حد ما. السياسة الشعبوية استغلت هذا الجانب لتحقيق مكاسب انتخابية، من خلال محاربة العولمة وعدم تشجيع مؤسساتها على الانتقال إلى العمل في أماكن خارج بلدانهم، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق على الدعم والإعانات للصناعات والمنتجات المحلية، ورفع الرسوم والضرائب الجمركية على المنتجات المستوردة، ما أدى إلى زيادة الأسعار على المستهلك المحلي، الذي كان من خلال العولمة يحصل على المنتجات من عدة مصادر وبأسعأر أقل. وبالطبع فإن هذا الوضع زاد من حدة موجة التضخم.

السبب الثالث والأخير في تراجع العولمة، هو المتمثل في تداعيات حرب أوكرانيا. وكما نعلم فإن هذه الحرب قد أدت أولاً إلى انكماش في العلاقات التجارية والمالية والاقتصادية بشكل عام بين الدول الغربية وروسيا، كما أدت إلى تقطع في الإمدادات من المواد الزراعية والغذائية القادمة من أوكرانيا وروسيا، والتي تمثل أحد أهم مصادر المنتجات الغذائية مثل الحبوب وغيرها، ما أدى إلى عدم ضمان توفرها بشكل دائم، ما انعكس في زيادة أسعارها في السوق العالمي، وأسهم في ارتفاع مستويات التضخم. إضافة إلى ذلك فإن التوتر الذي يسود العالم نتيجة لهذه الحرب، يمثل بدون شك سبباً في أضعاف الثقة، التي كانت سائدة خلال فترة أوج العولمة، ما جعل كثيراً من الدول تعمل على التقليل من الاعتماد على الخارج، وتدعم وتطور من قدراتها المحلية وإن كان ذاك على حساب الكلفة، ما انعكس في شكل ارتفاع تكاليف الإنتاج، وبالتالي زيادة الأسعار وتفاقم التضخم. طبعاً حالياً يمكننا القول إن السبب الأول في تراجع العولمة، والمتمثل في تداعيات جائحة كورونا، لم يعد قائماً إلا أن السببين الأخيرين والمتعلقين بالسياسات الشعبوية وحرب أوكرانيا لا يزالان يؤثران بشكل واضح ومتزايد في وضع العولمة، ومن خلالها على مستوى الأسعار والتضخم. لذلك فإن استخدام سعر الفائدة للقضاء على التضخم، لا يبدو بأنه الحل الشافي لتحقيق هذا الهدف، ما لم يعاد النظر في السياسات الشعبوية، وما لم تتوفر الظروف الكافية لانتهاء حرب أوكرانيا.

خلاصة القول إن تراجع العولمة خلال السنوات القليلة الماضية للأسباب التي تم ذكرناها، كانت حسبما يبدو وراء ارتفاع الأسعار وزيادة معدلات التضخم، وعندما تنتفي هذه الأسباب نهائياً، فإن العولمة يمكن أن تعود بنفس الوتيرة السابقة إن لم يكن أكبر في تحقيق مزيد من حرية حركة الأفراد والتجارة والاستثمار، ما يتيح للمستهلك في مختلف دول العالم خيارات الحصول على البضائع والمنتجات من عدة مصادر وبأسعار تنافسية، مثلما كان عليه الوضع قبل نشوب الظروف التي أدت إلى تراجع العولمة.
* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yxmwvpck

عن الكاتب

​المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"