عادي
قرأت لك

«غرفة يوسف»... عندما يتفجر القلب حنيناً

19:58 مساء
قراءة 4 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

لعل من الأشياء التي ميّزت الساحة الإبداعية الإماراتية؛ ذلك البحث المستمر عن الجديد عبر التجريب المتواصل، فنجد على مستوى الشعر، أن الكثير من الشعراء في الدولة كتبوا في مجال القصيدة العمودية، وانتقلوا إلى التفعيلة ثم النثر ومارسوا الكتابة الشذرية، وهكذا الحال بالنسبة للسرد؛ إذ نجد أشكالاً متعددة ومتنوعة للرواية، وهذا الأمر يجعل الحراك الثقافي والإبداعي حيوياً ومتألقاً.

كتاب «غرفة يوسف»، للشاعر والكاتب أحمد العسم، الصادر في طبعته الأولى عند دار «العنوان» للنشر في عام 2022، يعبر عن ذلك الشغف بالبحث عن أساليب وأنماط إبداعية جديدة ومختلفة في الكتابة، لكنها تلتزم جهة الشعر روحاً وألقاً وبوحاً يتقطر من تلك النصوص المحتشدة بالشوق والحنين وفيض الذكريات، ولا عجب أن تكون الكتابة معبرة عن حالة من الاختلاف، فالعسم نفسه ظل يبحث عن التغيير منذ أن اتجه نحو قصيدة النثر في وقت كان الخروج فيه صعباً وقاسياً، ويجعل صاحبه في زمرة المتمردين والمنفلتين عن سلطة الخطاب الشعري التقليدي، وهو طريق سلكه كثيرون، فكانوا رواداً وضعوا في اعتبارهم أن المهم هو اللغة وليست القوالب التي توضع فيها؛ بل الضروري هو عدم الخضوع لتلك القوالب التي هي بمنزلة أقبية تعتقل فيها الكلمات؛ لذلك نجد في «غرفة يوسف» نوعاً من الميل جهة التحرر من ثقل الأنماط السائدة في الشعر، والبحث عن آفاق جديدة من أجل التعبير عن الذات والعلاقة مع الآخر، فمثل هذا الجهد الإبداعي يستهدف الانقلاب على ثابت «هل غادر الشعراء من متردم»، وتبيان أن المجال في التجديد الشعري والأدبي بصورة عامة لم يغلق، وربما ذلك ما جعل الكاتب في هذا المؤلف يستدعي قول الفيلسوف والروائي الإيطالي امبرتو ايكو: «الكلمات هي مادتنا الخام ونحن حرفيوها».

الكتاب يقع في 232 صفحة من القطع المتوسط، ويشتمل على عدد من العناوين؛ مثل: «الحب في ألم في موت فاطمة»، «إذا استيقظ الفؤاد»، «الأمهات أجمل الكائنات»، «الحمى»، «الرجل اللطيف النبيل»، «حكاية موعد»، «حين يسكن الإنسان حطامه»، «ضوء منسي في غرفة»، «ما لم أنقله عن صوتك»، «كالثلج الناصع يأتون بالكلام»، «لا تتركوها وحيدة»، «ما يشبه القطع المتباعدة»، «مشاعر في حديث خاص»، «رسالة إلى رحيل»، والعديد من العناوين، التي تضم نصوصاً شعرية، ورسائل محبة، كما تحتوي على تداع للذكريات، وفيض من أحاديث مفعمة بالحنين والشوق، وحوارات مع وعن أحباء رحلوا عن الحياة، واستشهاد بمقولات ونصوص لشعراء وأدباء عرب وأجانب من القدامى والمعاصرين، والكتاب بصورة عامة هو بوح شفيف، يخرج من عمق الدواخل، ليخاطب القارئ بدفق شعوري يفيض رقة وعذوبة، خاصة تلك الكلمات التي تعبر عن ذكريات متعلقة بلحظات المرض، عندما تضيق العبارة فيعمل الكاتب على البحث عن جديد مختلف، فروح الابتكار والتجريب والتجديد تظل تغري أي مبدع، وفي هذا الكتاب يمارس العسم فعل الحكي عن كل شيء، يرصد كل تجاربه ومنعطفات حياته ومواقفها، ليبسطها أمام القارئ.

* أثر باقٍ

عنوان الكتاب «غرفة يوسف»، يحمل اسم خال الكاتب الذي يذكره في الإهداء بهذه الكلمات: «إلى خالي يوسف: ربما أراك في أحلامي، وأشير لك في كتاب»، ويقلب الكاتب صفحات من الذكريات في سياق حديثه عن هذا الخال الذي ربطته به علاقة الحب العظيم، فعلى الرغم من أن البيت الكبير للعائلة به غرف للجميع، فإنه يخلو من غرفة ليوسف الذي ارتحل بعيداً في ليالي الغرب المظلمة.

ويقول المؤلف في الكتاب: «خالي يوسف، مات بعيداً وترك عظامه في بلاد أخرى، ولم تكن له غرفة خاصة في البيت، وكان له هذا الكتاب»، فالمؤلف يتواصل مع ذلك الخال عبر مناجاة بديعة، ليطل من خلالها على غرف أخرى في البيت، وما تلك «الغرف»، إلا أثر باقٍ للذين سكنوها ثم مضوا؛ إذ إن المؤلف يتحدث عن علاقته بعدد من الأقارب، ويصنع عبر الكتابة صوراً ومشاهد نابضة بالحياة، هو يستدعي بعض الذين رحلوا من أولئك الأهل والمعارف، ليحاورهم ويتحدث إليهم، ومن هؤلاء الذين يفرد لهم العسم مساحة خاصة من الحب والده الذي ارتحل في عام 1993، عبر رسالة يبث فيها لواعج الشوق والحنين والأمنيات المستحيلة، فهو يقول: «آه، لو تعود ولو للحظةٍ كي أقبّل يدكَ الطاهرة وأتحدث لك عن أشياء تخصني وحدي، وعن سيرةِ مدينةٍ وغياب أمي ورحيلها السريع المر.. أيضاً أتحدّثُ لك عن إخوتي إبراهيم وخولة وأديب، والأبناء الجميلين، وأننا بعد رحيلكما أنتَ وأمي أصبحنا نجتمع كل جمعةٍ في منزل خولة أختي وجزى الله خيراً زوجها عبد الله الذي فتح لنا قلبه كي نواصل اللقاء، نطوف في الذكريات، نفتح الذاكرة ونملأ المُهج بالحب، ونقول للأولاد: نحن أبناء عيسى العسم»، ففي هذه المساحة يتحدث الكاتب عن أبيه وأمه بكل مشاعر الفقد التي تظل تخيم على الإنسان مدى الحياة، كما يضم الكتاب عدداً من الرسائل إلى أصدقاء وأقارب ليحيي تلك المشاعر التي ربما تأثرت بمتغيرات الحياة.

* البيت القديم

تحت عنوان "ضوء منسي في الغرفة" ينقلنا الكتاب إلى عوالم الحنين إلى المكان، ومشاعر المؤلف الخاصة وهو يعود مرة أخرى إلى غرفته في البيت القديم بكل ما يحمل من تفاصيل وذكريات تظل مقيمة على الرغم من تطاول السنوات، ويقول العسم: لم يكن بالأمر السهل الذهاب إلى الغرفة المنفصلة عن باقي الغرف (الدهليز)، في منزلنا القديم بعد انقطاع، وذهابنا إلى البيت الجديد سنة 1984، والتحدث بصوت مرتفع، تطلب الأمر قدرة عالية ودقيقة، لأن الماضي بهدوء معنا ويذكرنا بالعودة إلى غرفة تواجه البحر وترصد عودة والدي وانتظار أمي وقلقها، لم يكن بالشيء اليسير، شيء ما يندفع إلى الأعماق، مربك يقف حائراً عند باب الغرفة، أسئلة تستدعي الذاكرة، ثم ينتقل الكاتب لوصف الغرفة، ويقول: النظر للأثاث الذي استعملته وتقلبت عليه مرات، وبعض من قطع قديمة وسرير من الخشب السميك أحضره والدي من الكويت، كان بمثابة ضخ الحياة في الروح، وإعادة لوصال حميمية مقطوعة.

* مساحة

بالطبع لم ينس العسم أن يفرد مساحة لمدينته رأس الخيمة، تلك التي تسكن روحه؛ حيث الطفولة والنشأة الأولى، والأقارب والذكريات والأماكن والبيوت والمقاهي، وحيث البحر الذي له مكانة خاصة في نصوص العسم الذي يقول عن رأس الخيمة: أحب المدينة القديمة في رأس الخيمة لكبريائها وقوقة صمود بنيانها، وإطلالتها على الميناء، أحب صبرها وسهولة مزاجها إذ رضيت.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yevu582d

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"