رغيد جطل
كثيراً ما نردد (لست مضطراً للتبرير) أو (لا يحق للناس أن يظنوا بي ما لم أقصده) نقول هذا معبرين عن حريتنا، لكن الأمر يحتاج إلى التريث؛ إذ حريتنا محكومة بأمرين: الأول أن تكون ضمن ضوابط الشرع وأحكامه، فلا يجوز فعل المعصية والمجاهرة بها أو الإخلال بعبادة من قبيل هذه حريتي، والثاني أن تكون هذه الحرية ضمن الضوابط العرفية، والعادات الاجتماعية التي لا تخالف الشرع، فالعرف أحد مصادر التشريع الفرعية، والقاعدة الفقهية تقول (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً)، فما ينكره العرف، وفيه تعدٍ على الآخرين، ليس مما يحق لنا؛ إذ مما اتفق عليه الناس أن حريتنا تنتهي حينما تبدأ حرية الآخرين، وفي هذا صون للعلاقات الاجتماعية.
لقد كفل الإسلام الحرية الشخصية للآخرين في المعتقد والعبادة وجميع مناحي الحياة، وطلب إلى أتباعه ألا يعتدوا عليها، وهذا يدل على سمو الإسلام، لكن في الوقت ذاته، هذه الحرية ليست شيئاً مطلقاً، فلا يحق لأحدنا أن يقوم بأمر ما، يخالف فيه العادات الاجتماعية والأعراف الأخلاقية، ثم إن سئل اتخذ من الحرية الشخصية ذريعة له، وأنه غير مضطر للتبرير، حتى إن بعضهم إن قصّر في أمر، وسئل ثم برر سبب فعلته، عبّر عن امتعاضه من اضطراره للتبرير، وعدّ ذلك منقصة في حقه مع أن في هذا الأمر رفعة لصاحبه، فهو يدفع عنه سوء الظن به، وقد يقول قائل: أنا لا أهتم لكلام الناس، والرد على هذا، أن كلام الناس لا يعنينا إن كنا نعيش حياة مستقلة منعزلين في مكان ناءٍ عن الخلق، أما ونحن نعيش مع الآخرين ونخالطهم، فعلينا أن نتصرف وفق مقتضيات معيشتهم، ثم إن من تصرف تصرفاً فيه ريبة، فينبغي أن يوضح سبب فعلته، دفعاً للتهمة، ولقد علمنا النبي، أنه حتى لو لم يكن في التصرف ريبة، وحتى لو كنا فوق الظنون، أن نوضح ما قد يستشكل على الناس إدراكه، ولنا فيه، عليه الصلاة والسلام، الأسوة في ذلك، فقد روت أم المؤمنين صفية بنت حيي أنَّهَا جَاءَتْ رَسولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، تَزُورُهُ وهو مُعْتَكِفٌ في المَسْجِدِ، في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ معهَا رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حتَّى إذَا بَلَغَ قَرِيباً مِن بَابِ المَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النبيِّ، صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مَرَّ بهِما رَجُلَانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّما علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ نَفَذَا، فَقالَ لهما رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: علَى رِسْلِكُمَا، قالَا: سُبْحَانَ اللهِ يا رَسولَ اللَّهِ! وكَبُرَ عليهما ذلكَ، فَقالَ رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُما شيئاً. ويرشدنا سيدنا عمر بن الخطاب إلى ضرورة توخي الحذر في ما نقوم به، فيقول: من عرّض نفسه للتهمة، فلا يلومنّ من أساء الظن به.