ذكر لي الزميل زاهر السوسي أنه حضر قبل ثلاث سنوات الدورة التدريبية للناشرين، والتي انعقدت آنذاك في الشارقة ضمن الفعاليات المصاحبة لمعرض الكتاب، وفي تلك الدورة تحدث ناشر إنجليزي عن الكيفية التي يجعل بها الناشر كتابه الأفضل مبيعاً، وقال، إن دور النشر الكبرى أو بعضها تطبع 8000 نسخة من الكتاب، ويجري توزيعها مجاناً على ناشرين ومختصين في صناعة الكتاب، وذلك فقط لإبداء الرأي في هذه النسخ من حيث الغلاف والطباعة والإخراج والورق، وغير ذلك من التفاصيل المهنية المتعلقة بالكتاب، وبعد ذلك يجري فحص وقراءة كل الآراء الواردة إلى دار النشر، ثمّ تقوم الدار بالتخلّص من هذه النسخ التجريبية أو إتلافها بعدما حصلت على سلّة كاملة من الآراء الحرفية المتصلة بهذه النسخ التي تستعاد ممّن كانت قد وزّعت عليهم، وبعد ذلك كله وأخيراً تجري طباعة الكتاب في شكله النهائي.
الناشر قال أيضاً، إن الكتاب الذي يبيع أقل من 25 ألف نسخة تعتبره دار النشر فاشلاً، ولا يتم التعامل مع مؤلفه ثانية على صعيد النشر.
توقفت عند طباعة 8 آلاف نسخة من كتاب ما، ثم إتلافها لمجرّد الحصول على رأي المختصين في إخراج ذلك الكتاب، فأية خسائر تلك التي تعرفها جيداً دار النشر ومع ذلك تُقْدم عليها بكل قوة قلب وبلا تردد؟! وفي هذه الحال، على الأرجح، فإن دار النشر التي تضحّي بثمانية آلاف نسخة تجريبية من كتاب تنوي نشره، تعلم جيداً أنها ستربح الملايين من وراء هذه العملية المهنية، وأن الثمانية آلاف نسخة المعدومة ما هي سوى جزء من تكاليف الكتاب، أما الأرباح فهي في حكم المضمونة مئة في المئة.
هذا أسلوب مهني في عملية النشر يراوح بين المغامرة والجرأة والحرفية، لكن قبل كل ذلك، يبدو أنه أسلوب تجاري علمي يمر بأطوار عديدة من الخبرات، وإلا لما أقدمت دار النشر على طباعة آلاف النسخ والاستغناء عنها بكل بساطة، فالهدف هنا الخبرة بل مجموع الخبرات المُصفّاة بالتقطير بعد قراءة ومعاينة الثمانية آلاف نسخة التجريبية من جانب صنّاع كبار في سوق الكتاب.
على النطاق العربي، من الصعب جداً، بل ربما من المستحيل القيام بهذا الأسلوب الغربي أو الأوروبي في صناعة الكتاب، ومن المرجح أن أكثر الناشرين العرب شجاعةً هو الذي يطبع من 5 إلى 10 آلاف نسخة فقط، وربما تعود بعض المئات أو حتى الآلاف من هذه النسخ إلى مخازن الناشر، وإذا كان الناشر محظوظاً وبمعجزة نفدت طبعته الأولى، فإنه نادراً ما يغامر ويطبع طبعة ثانية لكتاب بالكاد نفدت طبعته الأولى.
في العالم اليوم ثمة اقتصاد مهول هو اقتصاد سوق الكتاب والنشر والطباعة، وتدير هذا الاقتصاد شركات كبرى محافظها المالية تعادل وربما تتفوق على ميزانيات دول بأكملها.
[email protected]
https://tinyurl.com/5j8wps9p