تربح الطائفية اللبنانية ويخسر الوطن

04:33 صباحا
قراءة 4 دقائق
يراقب اللبنانيون هذه الأيام محدودية سيطرتهم على فضائهم السياسي وتحكمهم فيما يدور في أرجائه . فقد انتهى أجل رئاسة الجمهورية من دون أن يتمكن البرلمان اللبناني من اختيار رئيس بديل للعماد ميشال سليمان، وكان أجل المجلس النيابي انتهى من دون أن يتفق نواب المجلس على قانون انتخابات بديل فقرروا التمديد لأنفسهم . وبعد التمديد استقالت الحكومة، فتطلب الأمر أكثر من تسعة أشهر لتشكيل حكومة بديلة، بيد أن الحكومة التي حظيت بتوافق داخلي وخارجي تعمل مضطرة تحت سقف هذا التوافق، وبالتالي تحكم بما يرضي الأطراف الإقليمية التي سهلت تشكيلها .
في هذا الوقت تتجمع الملفات التي تتطلب حلاً وهي متنوعة وتشمل مجالات مختلفة، منها المطلبي ومنها الإداري ومنها التنموي ومنها الأمني، وهو الأهم، خصوصاً بعد التدهور الأمني المنتشر في العراق وسوريا والممتد إلى لبنان، وإن كانت الحكومة التوافقية تسجل نجاحات أمنية مفاجئة بالقياس إلى طبيعتها المتناقضة، فالفضل في ذلك يعود على الأرجح إلى التنسيق الفعال بين أجهزة الدولة .
وربما أيضاً إلى الحرص الدولي والإقليمي على تزويد الحكومة بما يساعدها على تعقب الإرهابيين والقضاء عليهم، وليس معروفاً بعد كيف كانت الحكومة اللبنانية ستتصرف لو أن الأطراف الإقليمية والدولية أحجمت عن التعاون .
والواضح أن التوافق الإقليمي والدولي حول لبنان ليس ناجماً عن الحرب الدائرة ضد الإرهاب فحسب، فهو يفصح عن حسابات يرى أصحابها أن الملفات الكبيرة في المنطقة وضعت على طاولة البحث وأن أوان حلها قد طرأ منذ بعض الوقت . ولعل الأبرز فيها هو الملف النووي الإيراني الذي خطا خطوات جدية على طريق الحل .
وعلى الرغم من الأجواء الإيجابية التي يبعثها الانفراج العام حول النووي الإيراني، فإن طبيعة الصراع الداخلي بين الأطراف اللبنانية وتعقيداته لا تسمح بأكثر من هدنة أو توافق آني لتمرير مايعرف محلياً بهذا " القطوع" أو ذاك، وهذا راجع للأسباب التالية:
* أولاً: يراهن الأطراف اللبنانيون على استخدام الخارج في تحسين مواقع كل منهم والتغلب على شريكه في الوطن، وقد لا حظنا هذا الأمر بوضوح خلال استقرار قوات الردع السورية في لبنان طوال 30 سنة، حيث كانت كل طائفة ترى أن على السوريين دعمها لتحسن مواقعها على حساب جيرانها أو شركائها في الوطن .
* ثانياً: يسعى كل طرف لتحصيل حقوقه من شريكه في الوطن، علماً بأن الدستور الطائفي اللبناني يسهل هذ السيرورة، إذ ينص في مادة 6 و6 مكرر، ما يعني أن الدولة التي تمثل الفضاء العام ليست مرجعاً يمكن لهذه الفئة أو تلك أن تلجأ إليه وتطلب العدالة منه .
* ثالثاً: ينظر إلى الثروة اللبنانية بوصفها مجالاً للاستئثار وليس مصدراً لتوزيع المداخيل بالتساوي على العموم، ولعل اللغط الذي دار حول كيفية استخراج النفط والغاز ومن يحق له ذلك جعل هذه الثروة الكبيرة مجلبة للمتاعب بدلاً من أن تكون فرصة لحل المشكلات الاقتصادية الصعبة .
* رابعاً: ترسخت منذ استقلال لبنان ثقافة سياسية لا ترى ضيراً في التنازع الطائفي على الدولة وداخل الدولة، بل صار كل من يعارض هذا الثقافة مهمشاً ومستبعداً، الأمر الذي أدى إلى تكوين بيئة يتبارى في كنفها الطائفيون لتحصيل حقوق طوائفهم على حساب الدولة .
* خامساً: لم يستخلص اللبنانيون الدروس المفيدة من الحرب الأهلية الطائفية التي دامت 15 عاماً وأطاحت عناصر القوة اللبنانية في مجالات عدة، وبدلاً من اغتنام الفرصة لبناء فضاء وطني جامع تم تهديم العناصر الجامعة القليلة وإرساء المزيد من التقسيم الطائفي وتعميمه، ليس فقط على الطائفتين الكبريين الإسلامية والمسيحية، وإنما على المكونات التي تشكل نسيج كل مجموعة، لذا ما كان مستغرباً أن تدور نزاعات داخل كل مجموعة، وبالتالي انحسار الهرمية الجامعة وتوسع هرمية التفتيت إلى حد حرمان الطوائف نفسها من فرصة نيل حقوقها بواسطة تضامنها .
* سادساً: انتقل لبنان من شعار قوته في ضعفه الذي ساد مجمل فترة الاستقلال وحتى العام 1969 تاريخ انطلاق المقاومة الفلسطينية من الأرض اللبنانية للقتال ضد "إسرائيل"، إلى شعار قوة لبنان في مقاومته وقدرته على ردع "إسرائيل" وطردها من الأراضي اللبنانية التي احتلتها سنوات طويلة . بيد أن طرد الاحتلال وامتلاك القوة الرادعة لم ينعكس إيجاباً على الوحدة الوطنية اللبنانية . فصار الصراع مع المحتل سبباً إضافيا للانقسام بين أطراف ترغب في اعتماد استراتيجة رادعة للصهاينة، وأطراف ترى أن الصراع مع "إسرائيل" سيوظف بالضرورة في موازين القوى اللبنانية، وبالتالي يستدعي الأمر استراتيجية أخرى تكون المقاومة عنصراً فيها وليس على رأسها، وعلى الرغم من اتفاق الطرفين على وضع استراتيجية مشتركة مقبولة من الجميع، فإن الخطوات التي تمت حتى الآن لم تفض إلى نتيجة إيجابية، ومازال الأمر معلقاً أي سبباً في المزيد من الانقسام والتفتيت والضعف .
يفيد ما سبق القول إن محدودية سيطرة اللبنانيين على فضائهم السياسي ليست أمراً عارضاً أو راهناً يمكن تجاوزه، وإنما هي حصيلة تكوين بنيوي للسلطة السياسية في هذا البلد . وإذا كان بعض اللبنانيين يسمي هذه المحدودية "ديمقراطية توافقية"، فإن التسمية لا تعدو كونها فعل مجاملة ذاتية قد تضفي مزيداً من الغموض على الضعف السياسي الرسمي والمزيد من التعقيد على حل مشكلات التمثيل في أجهزة الدولة ومناصبها الأساسية . بكلام آخر يحتاج لبنان إلى دولة طبيعية وليس إلى فضاء دولتي تنحسر فيه سيطرة أهله لحساب الغير أو الآخرين الذين يتهمون ظلماً بافتعال خلافات بين لبنانيين هم المسؤولون أولاً وأخيراً عن وجوب التحكم بمصيرهم وردع الأجانب عن التدخل في شؤونهم . لا، لبنان ليس ضحية تدخلات خارجية في شؤونه فقط، بل ضحية اعتبار كل لبناني أن الوطنية تكون في طائفته أو لا تكون .

فيصل جلول

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"