عادي
(جبر الخواطر)

العفو عن أهل مكة.. يوم المرحمة

01:06 صباحا
قراءة 4 دقائق

جبر الخواطر عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خلق إسلامي عظيم، يدل على سمو نفسه، وعظمة قلبه، ورجاحة عقله. بهذا الخلق، يجبر النبي نفوساً كُسرت، وقلوباً فطرت، وأرواحاً أزهقت، وأجساماً مرضت.

وجبر الخواطر عبادة وطاعة لله، تعالى، وجبر النفوس من الدعاء الملازم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يقول بين السجدتين «اللهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وارزقني». و«جبر الخواطر» صفة من صفات الأنبياء، فهم يتسمون بحسن المعاملة وطيبة القلب. وسُئل الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن أكثر الأفعال التي يدخل بها الإنسان الجنة، فقال: «التقوى وحسن الخلق»، وجبر الخاطر من حسن الخلق، وصفة إسلامية وإنسانية عظيمة، ولا تصدر إلا من صاحب القلب الطيب والأخلاق الحسنة، فهي مداواة للقلب.

كان يوم فتح مكة مشهوداً بالأخلاق الرفيعة العالية، «الجابرة للخواطر»، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وهو خافض رأسه تواضعاً لله، وكان «الفتح الأعظم».

يذكر الدكتور جعفر عبد السلام في كتاب «أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية» أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين القيادة وبين النبوة، ومع ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام برغم هذا الإعداد القوي لم يكتف به ليفتح مكة، بل لجأ إلى وسيلة قلما يلجأ إليها زعيم من زعماء الدنيا بشكل عام.. وسيلة «امتلاك القلوب وجبر الخواطر»، فالشعب الذي فتح بلده الآن على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم يكون في داخله غيظ كبير جداً من المحتل له، سواء كان هذا المحتل من الشرفاء أو من غير ذلك، لذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يؤلف قلوبهم، ويطيب خاطرهم.

رأينا قبل ذلك أن الرسول عليه الصلاة ألّف قلب أبي سفيان بإعطائه الفخر، عندما قال «من دخل البيت الحرام كان آمناً، ومن دخل دار أبي سفيان كان آمناً»، وحسن إسلامه، وهو زعيم أكبر القبائل القرشية في مكة.

وهناك موقف رائع منه صلى الله عليه وسلم «جبراً للخاطر» في قبيلة «بني عبد الدار»، فعندما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المكرمة وصلى فيها، ثم خرج ودعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وهو من بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من أعظم القبائل القرشية أيضاً، فهي حاملة مفتاح الكعبة أباً عن جد لعشرات السنين. وأمره أن يأتي بمفتاح الكعبة، فظن الجميع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيأخذ منهم مفتاح الكعبة، ليعطيه لأحد أقاربه من بني هاشم، بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه طلب ذلك صراحة، فيكون ذلك شرف الدهر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ المفتاح ووضعه في يد عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الكلام في منتهى العظمة والحكمة، وحتى نعرف مدى العظمة والحكمة، كان موقفاً من المواقف التي مرت قبل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة قبل أن يهاجر، ويومها كان عثمان بن طلحة هذا من الكفار، وكان قد دار بينه وبين عثمان بن طلحة حوار وطلب منه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعطيه مفتاح الكعبة ليدخل الكعبة، لكن عثمان بن طلحة في ذلك الوقت رفض، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا عثمان لعلك ترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت فقال عثمان: لقد هلكت قريش يومئذٍ وذلت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل عمرت وعزت يومئذٍ)، ومرت الأيام وجاء الرسول عليه الصلاة والسلام فاتحاً مكة المكرمة وطلب المفتاح، وعثمان بن طلحة من دون تردد أتى بالمفتاح، فهو الآن أصبح من الصحابة المؤمنين البررة، فأتى بالمفتاح ووضعه في يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يظن أن الأمر سيصير إلى ما قاله صلى الله عليه وسلم، وسيعطي المفتاح إلى إنسان غيره، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع المفتاح مرة ثانية في يد عثمان بن طلحة «إجباراً لخاطره» وقال: (هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، اليوم يوم بر ووفاء، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم).

وظل مفتاح الكعبة مع بني عبد الدار، وهو إلى الآن في نسل بني عبد الدار بكلمة الرسول عليه الصلاة والسلام: (خذوها خالدة تالدة).

يضيف د. أنور الجندي في كتاب «بماذا انتصر المسلمون»، لقد فعل صلى الله عليه وسلم أمراً من المستحيل أن تجده في تاريخ أي دولة من الدول حاربت دولة أخرى، لقد وقف الرسول عليه الصلاة والسلام في صحن الكعبة في يوم فتح مكة، ودعا أهل مكة جميعاً أن يأتوا إلى الكعبة، فأتوا جميعاً بعد صراع طويل جداً وإيذاء للرسول عليه الصلاة والسلام، بعد كل هذا التاريخ الطويل من العناء مع أهل مكة يسألهم صلى الله عليه وسلم سؤالاً واحداً فيقول: (ما ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم)، قال في منتهى الرحمة والعفو: (أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء)، فأطلقهم جميعاً من غير فداء. فكان من أعظم «جبر الخواطر».

وبالفعل بعد هذا الإطلاق العظيم، اجتمع شعب مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا وأخذوا يبايعونه جميعاً على الإسلام وانتهت أحزان الرسول صلى الله عليه وسلم التي أخبر سبحانه وتعالى عنها بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3)، فالرسول كان يحزن حزناً شديداً على رجل واحد لم يسلم، فتصور مدى فرحته ومدى سعادته عندما أسلم شعب مكة جميعاً في يوم واحد الذي قال فيه: اليوم يوم المرحمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/24exmcjx

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"