عادي

«ترنيمة سلام».. أبجدية سردية طليقة

22:46 مساء
قراءة 3 دقائق
8
9

الشارقة: «الخليج»

فهم الذات، سبيل الإنسان إلى الغفران، وهو فهم يقترب من التطهير الداخلي، وربما ينطوي على معرفة وخبرة وسمو، ومن خلال ذلك كله لا بد من حصول السلام الداخلي.. ربما تكون هذه هي الفكرة الرئيسية التي تدور حولها فكرة رواية «ترنيمة سلام» للكاتب المصري أحمد عبد المجيد، والتي تكاد تتشابه في ثيمتها مع روايتيه «عشق» و«التابع».. «وترنيمة سلام» تعرض لتجربة روحانية ذات حبكة واضحة، فيما تكاد تتطابق الروايات الثلاث وتنسجم في نسق واحد، يبحث عن هوية إنسانية من خلال رحلة روحانية، هي كما يصفها عبد المجيد تجربة «لا تنتمي لسياق ثقافي معين، بل ذات طبيعة متعددة الثقافات، وتجلى ذلك بوضوح في طبيعة التمارين الروحانية التي كان المعلم يطلب من خالد محفوظ بطل الرواية القيام بها».

و«ترنيمة سلام» هي الرواية الأبرز لعبد المجيد، والأولى التي التصقت بذهن القارئ، ومن خلالها استدل هذا القارئ على مشروع عبد المجيد الروائي خاصة أنها وصلت للقائمة الطويلة في جائزة الشيخ زايد للكتاب بعد صدورها بأشهر قليلة، حيث قيل حينذاك إنها كانت تتمتع بحالة شعورية جارفة.

يصفها الروائي عبد المجيد تجربته في هذا العمل الروائي، بأنها نتاج لبحثه عن إمكانية العيش بسلام في هذا العالم المترامي الأطراف، حيث يقول: «وجدت بعدها أنه لا يمكن للمرء أن يصل للسلام النفسي ما لم يعش الحب الحقيقي، ومن هنا جاءت روايتي الثانية «عِشق» ثم بدا لي أن الإنسان لا يمكنه الوصول للسلام النفسي ولا عيش الحب الحقيقي ما لم يكن حراً، ومن هنا جاءت روايتي الثالثة التابع».

التصالح مع الذات

ومن يدقق في مفردات الكاتب يكتشف عمق ما لديه من وعي بإمكانية التصالح مع الذات، وهو الذي يشكل عتبة للدخول في مرحلة أخرى من العيش بسلام مع المحيط، ومع الآخر، حيثما كانت هناك أرض واحدة، وفضاء مكاني واحد، هو بالضرورة فضاء جمالي وروحي، وتنبعث منه روائح الحب والتسامح والأخوّة الإنسانية، وهي ميزات على درجة عالية من الفهم الذي يكتب أبجدية سردية طليقة، وحرة تماماً، ولا تعوقها أية قيود أو منعطفات، أبجدية متقدمة نحو الأمام، كشعاع دائري، يبهر بضوئه كل من اقترب من لسعة تجليه الجواني، ومثل هذا الإبداع إنما ينطلق حراً وصافياً، وعفوياً نحو هدفه الأسمى، ك «ترنيمة سلام» تحدث أثراً في الروح، إذا تتجلى وتحلق من غير سأم، مشفوعة بجرعة جاذبة، تلتف كأنشوطة حول شخصياتها الحائرة والمنفلتة، لتلم شتاتها وتخترق حيرتها برباط الدفء والشعور الإنساني والروحي العارم..

رافعة وجدانية

ما يميز هذا النص، أنه يسلك طريقاً جديداً في مفهوم الصوفية، ليست على طريقة المتصوفة المعروفين كابن عربي، إنما هي صوفية وجدانية، تكاد تطبع معظم النصوص العربية في القرن العشرين، من هنا تعتبر «ترنيمة سلام» بلغتها وإشاراتها وعمق ما تطرحه من أسلوب فني أدبي وسردي، إنما تقوم على معيارية فيها قدر كبير من الحس الذي يبحث في الذات الإنسانية، بوصفها ذاتاً متفردة، حيث يسعى الكاتب إلى سبر دواخلها بطاقة إبداعية خلاقة.

هنا، يتجلى الأدب كرافعة وجدانية وتعبيرية، تحاول تخليص الإنسان من شروره الداخلية، ليزداد معرفة وجمالاً، وليتكاثر حباً وسمواً من تلقاء فيض شعوري جارف، غايته تحقيق تلك المعادلة الصعبة، ألا وهي حقيقة المعايشة الحسية، التي تتوحد فيها الذوات بحثاً عن وجودها في الظاهر وفي الخفاء، وفي المآلات البعيدة حيث تتموضع الدلالة في رمزيتها الآسرة، وفي خباياها وأسرارها الكاشفة والمضيئة.

الواقع والحلم

تبرز معالم الجمال في «ترنيمة سلام» في تلك الرمزية العالية التي يحملها النص وهي رمزية محملة بمفاهيم فكرية وجوانية، تمتلك قدراً من الشجاعة، كما هو حال بطلها خالد، وقد استطاع تحقيق غايته عبر تفاعله الحسي، ومقدار ما وعاه من أثر روحي وإنساني، وهنا فقط، وليس من باب المبالغة القول: إن مؤلف الرواية قد عزف على أوتار القلب البشري، واستطاع استدراج قارئه، والاستحواذ على مشاعره، ذلك أنه استطاع أن يترك هالة من الضوء تردم الفراغات الداكنة في الذات الغائبة، وقد لامس أستار غوامض النفس، فتماهى مع أسرار الكائن، والتحم مع وحدته.

السرد يفكر

هذا الكتاب بحسب العديد من القراء، يختلف عن أي كتاب آخر، فهو يجعل قارئه يدرك الكثير من الأشياء التي لم يفعلها من قبل..: يجعله يفكر في العديد من المواقف بمفاهيم مختلفة، ويجعله أيضاً يفكر مرة أخرى، ويتساءل: كيف يمكن لشخص ما أن يصل إلى السلام الداخلي؟

لقد كان الكتاب بمثابة مرآة تبحث في كل أسباب السلام الداخلي للإنسان، حيث قوة الشعور هي القوة المهيمنة، وحيث الأحاسيس هي نافذة العقل، فليست سوى ثوانٍ معدودة فتتلاشى الحواجز، وتذوب بين الإنسان والإنسان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"