عادي
أفعال بشعة لا يطالها النسيان

الجرائم الكبرى عصية على «الصفح»

22:17 مساء
قراءة 4 دقائق
الجرائم الكبرى عصية على «الصفح»


يدور كتّاب الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا «الصفح ما لا يقبل الصفح وما لا يتقادم» (ترجمة مصطفى العارف وعبد الرحيم نور الدين) حول الصفح كتصرف أخلاقي واعٍ مسؤول، يقوم به شخص ما، سبق أن كان ضحية إساءة أو أذى أو جريمة تجاه الجاني، وهذا التصرف قديم قدم النزاعات والحروب البشرية، وهو عنصر أساسي في العلاقات الشخصية. يوضح مترجماً الكتاب أن فكرة الصفح في اللسان العربي، تتحرك ضمن شبكة من المفردات ذات حمولة دينية، تحيل في نهاية المطاف على صفح الله، ولا يقتصر جاك دريدا على أنماط حضور كلمة «صفح» في اللغة الفرنسية؛ بل ينتقل من لغة أوروبية إلى أخرى، مستحضراً التراث الروحي والتقليد الفلسفي.

الصفح بالنسبة للناطقين بالعربية يعني العفو عن الشخص وتجاوز ذنبه، ومسامحته، وهناك – مع ذلك – دلالات سلبية تعرضها القواميس العربية، وبعض معاني كلمتي «صفح» و«غفر» تحمل في طياتها ما قد يرتبط بشكل من الأشكال بفكرتي دريدا عن ضرورة وضعية وجهاً لوجه (الضحية والمجرم) في عملية الصفح واشتراط سرية هذا الأخير.

  • أطروحة

نص دريدا هو قراءة ومناقشة لأطروحات الفيلسوف الفرنسي فلاديميمر جانكليفيتش الذي طرح إشكالية «الصفح» في كتابيه «الصفح» عام 1967 و«ما لا يقبل التقادم» 1986 يطرح جانكليفيتش في هذين الكتابين بحدة مفرطة، إشكالية الصفح، بخصوص المحرقة النازية، فهو يتعصب إلى حد كبير لنزعة انتقامية، تحاول أن تصيب الوعي الألماني كله في مقتل؛ ذلك أنه يحمل هذا الوعي، بتعميم أعمى، فضيحة المحرقة، ويجعله مذنباً، وعياً شقياً وسيئاً.

إن المحرقة لا تتناسب – حسب جانكليفيتش – والسلم الإنساني، إنها تتجاوز حدود ما هو إنساني وحدود الشر لتطال إنسانية الإنسان، إنها تدخل في باب ما يسميه «ما لا يقبل التكفير» وما لا يمكن تجاوزه والتغاضي عنه، بمجرد إقامة مصالحة وصفح ساذجين، إنه يدخل في باب ما لا يقبل التقادم، إنها جرائم تتطلب أن تبقى الذاكرة متقدة وحية؛ بل يجب أن تظل شاخصة في الماضي، ماضي الأحداث، حتى يصبح هذا الماضي حاضراً، أو بعبارة أخرى تعيش الذاكرة الماضي بصيغة الحاضر، إن صرخة جانكليفيتش يكررها على لسان الشاعر الفرنسي بول إيلوار: «لا يوجد خلاص على الأرض ما دمنا نستطيع الصفح عن الجلادين» إنها صرخة من يتقمص دور الضحية في مقابل الجلاد.

يرى الكتاب أنه لا يجوز الصفح بأي شكل من الأشكال عن الجرائم التي ارتكبت ضد إنسانية الإنسان، أي ضد القدرة على ممارسة الصفح ذاته، أضف إلى ذلك أن مقترفي الجرائم لم يتقدموا أبداً بطلب الصفح، ولا سعوا إلى الحصول عليه؛ ذلك أنهم لم يعترفوا بأخطائهم، ولم يعبروا عن أي شكل من أشكال التوبة والندم.

إن حصر الصفح في ثنائية الضحية والجاني ومقاربته من زاوية منطق التبادل، لا يستقيمان وبنية الصفح بما هو كذلك، إن جانكليفيتش حبيس الرؤية التقليدية والمعتادة للصفح، والذي يجعله يقول باستحالة الصفح عن الجرائم النازية، نظراً لتجاوز فظاعتها كل الحدود إلى أن غدت بذلك «ما لا يقبل الصفح».

  • تعريف دقيق

هذا هو المأزق الذي يقف عنده دريدا، ويبحث عن مخرج منه، بالعودة إلى تعريف دقيق للصفح، فالصفح بالنسبة لدريدا لا ينحصر في الخندق البسيط والمتداول الذي رسم جانكليفيتش تضاريسه، كما لا يجب أن يأخذ أبعاداً سياسية وقانونية تشريعية، هنا يصبح الصفح عملاً اعتيادياً، كونه يخضع لشروط تحدده، إما باسم العفو العام وإما المصالحة الوطنية وإما الوحدة الوطنية وهي كلها مفاهيم لا تستقيم وإشكالية الصفح.

إن الصفح في منظور دريدا يتجاوز الحدود والسياقات القانونية والدينية كلها، فهو ليس مفهوماً سياسياً ولا قانونياً ولا تشريعياً ولا حتى دينياً، وعلى الرغم من أن جذره ينهل من الدين مباشرة، يجب تحرير الصفح من القواعد والحسابات والتوظيف السياسي، يجب أن يكون غير مشروط.

الصفح إذن مفهوم استثنائي فالجرائم التي ارتكبت باسم الإنسان وفي حقه، تلك الفظائع التي تتجاوز حدود الإنسانية، وتطال المجال ما فوق الإنساني وتصل إلى حد الشر الجذري والمطلق لا يمكنها أن تستقيم والفكرة الساذجة عن الصفح بما هو توافق سياسي أو قانوني أو تشريعي أو ديني، ويتعمد جاك دريدا استعمال مفاهيم نافية يحركها بشكل يسمح له بإدخالها في باب ما يسميه المستحيل، ولما كانت الجرائم ضد الإنسانية بشعة ومتجاوزة للسلم الإنساني، فإنها لا يجب أن يطالها النسيان، ولا يمكن إلغاؤها بمجرد تأسيس توافق سياسي أو قانوني أو مصالحة وطنية أو دولية.

  • تمييز

يدعو الكتاب إلى التمييز بين الصفح ومسلسل المصالحة الذي يهدف إلى إعادة الأمور إلى طبيعتها، واستعادة العافية؛ ذلك أن المصالحة تقتضي النسيان والتجاوز ومحو الماضي، في حين أن الصفح يقتضي كما يقول بول ريكور أن تبقى الذاكرة يقظة، تستحضر الماضي، وتعيش الحاضر بصور الماضي، ومن أجل الصفح لا بد للذاكرة أن تعمل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ybmz2trh

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"