عادي

الأدب يتحول إلى لعبة

23:03 مساء
قراءة 4 دقائق

الشارقة: محمد إسماعيل زاهر

تعود أزمة العلاقة بين الناقد والجمهور إلى رؤية النخبة لمفهوم الثقافة ودورها في المجتمع، والذي شهد نقاشات وصراعات وتيارات تحاورت بالنيابة عن «أصحاب الشأن» في أهمية الثقافة بالنسبة للبشر وكيف السبيل في الوصول بها إليهم؟، والأهم كيف يمكن تقديمها لهم؟.

قبل ثلاثة عقود من الآن كانت هناك رؤى لا تزال ترفض دمقرطة الثقافة، فالمنتج الرفيع لابد أن يبقى معزولاً عن الجمهور، فالثقافة بنت النخبة وصناعتها الثقيلة، وحاولت رؤى أخرى التقرب من الجمهور عبر إنتاج مواد سلسة وعميقة، تخاطب الناس بأدواتهم وتحمل إليهم أطروحة تدفعهم إلى التفكير، ولعبت رؤى ثالثة على فكرة «الجمهور عاوز كده»، وأنتجت أعمالاً بهدف الرواج والشهرة وتحقيق الربح، وكانت تلك الرؤى وغيرها، كما قلنا سابقاً تتقاتل في معركة لا تخصها، فالجمهور، مستهلك الثقافة، كان دائماً خارج اللعبة.

استنساخ

ماحدث في الثقافة بصفة عامة استنسخ في الأدب، حيث صنف النقاد دوماً المنتج: الروائي والقصصي والشعري، وفق الرؤى السابقة، أعمال «للنقاد فقط»، بوصفهم فرز النخبة الأول، وأعمال للقراء والمثقفين، تحظى بمراجعة هذا الناقد أو ذاك، وأعمال كانت تصدر وتوزع بالآلاف ولا يلتفت إليها أي ناقد، حتى ولو من باب القراءة الثقافية العامة التي تستهدف معرفة لماذا تجد هذه الأعمال مثل هذا الرواج، وأيضاً كان الجمهور هنا خارج المعادلة، فما يقبل عليه لا قيمة له من وجهة نظر الناقد، يتسم بالخفة والسطحية، ويخاطب الغرائز ويلعب على المشاعر، ويخلو من العمق ولا يرتقي بالعقل، كانت لدى الناقد الحديث مصفوفة من المفردات جاهزة للإجابة عندما يتم سؤاله عن أي عمل ينتمي إلى قائمة «الأكثر مبيعاً»، أما الحقيقة فإنها تتمثل في أن ذلك الناقد يردد تلك المصفوفة من دون قراءة هذا العمل، فمجرد رواجه يدل على بؤسه وسطحيته، هنا كان الناقد يرتدي عباءة سلفه المثقف القديم، فجمهور اليوم المتعلم والمنفتح على العالم والذي يستخدم التكنولوجيا ينتمي إلى الفئة القديمة نفسها «العوام».

ولابد هنا أن نأخذ في الاعتبار، أن الصورة لم تكن دوماً جامدة أو محددة الأطر على النحو السابق، فالكثير من الأدباء والكتاب والشعراء شكلوا سلطة في وقت ما، ونالوا اعتراف النقاد وإعجاب الجمهور في الوقت نفسه، ولكننا عندما نعيد قراءة هؤلاء اليوم لا نجدهم يستحقون كل هذا الاحتفاء من الطرفين، الناقد والقارئ، هنا لا مفر من النظر في مكانة ونفوذ هؤلاء وقدرتهم على النفاذ إلى أدوات ترويج الثقافة: الحزب..الصحافة..التليفزيون..وزارات الثقافة، بما فرضهم على الساحة كنجوم أدبية من ناحية، بالإضافة إلى علاقة هؤلاء النجوم بالنقاد، أو ما عرف ب«الشللية» في الثقافة العربية، أي أنهم نالوا اعتراف الجمهور والنقاد معاً، الأمر الذي أفرز ظاهرة غريبة فقد كانت هناك قوائم جاهزة من الكتاب والشعراء «يجب» على المرء «قراءة» محتوياتها لكي يكون مثقفاً، والأكثر مرارة أن هذه القائمة أصبحت معيارية لكل من يريد النقد أو الكتابة أو حتى القراءة، وكانت تشهد تغيرات بين حقبة وأخرى، حيث يدخلها نجوم جدد أو يخرج منها من توفاه الله وفقد سلطته بفعل الرحيل، فقائمة الستينات تختلف عن السبعينات والتي لا تتطابق مع قائمة الثمانينات وهكذا.

من داخل النقد نفسه، هناك الجانب التنظيري البحت، الأكاديمي الجاف، الذي شهد قفزات في الاقتباس من النقد الغربي حتى تحول في مرحلة سابقة إلى شبه معادلات رياضية، وألغاز غير مفهومة، وهناك النقد الذي اعتمد على منهج أو نظرية ما، وكتبه أصحابه بأسلوب تنويري، وهناك النقد الانطباعي، والنقد المجامل..الخ، ووصلت كل هذه الأنواع إلى طريق مسدود وعانت أزمة بنيوية حتى أعلن بعضهم عن وفاة النقد.

آفاق أخرى

منذ عقدين تقريباً، بات أصحاب الشأن، الذين همشوا كثيراً، هم النقاد، لقد أتاحت التكنولوجيا ومواقع التواصل لكل إنسان فرصة النقد، ولكن هذا الفضاء المتسع والجديد بحاجة إلى دراسة، حيث يكتنفه الغموض حتى الآن، ففضلاً عن غلبة آراء وتعليقات الجمهور، سنجد كل أنواع النقد وكل وجوه النقاد السابق الإشارة إليهم، ولكن الظاهر وما نستطيع ملاحظته مبدئياً أن هناك ذائقة ما تفرض نفسها في المواقع القرائية وفي مراجعات الكتب، فالغلبة للرواية، وهو توجه موروث من النقد القديم، ولكنها الرواية باشتراطات معينة، فالسرد الناجح لابد أن يتسم بالتشويق والصور السينمائية والغرابة والألغاز والمعلومات، ولا مجال للنصوص المطولة أو الدلالات المعقدة أو الأبنية المركبة أو الشخصيات التي تحتاج إلى غوص في الذات، والسرد يجب أن يكون واضحاً مهضوماً واللغة ناصعة تختفي فيها الإشارات غير المفهومة.

يمتد بعض محللي عالم التكنولوجيا بسلطة القارئ إلى آفاق أخرى، فالرواية بمواصفاتها الجديدة ستختفي في المستقبل المنظور، لصالح شكل آخر، لعبة، تدمج في شكل حكائي بين الصورة والسرد ويشارك فيها القارئ مباشرة كبطل أساسي في تلك اللعبة، وسيصبح لكل إنسان روايته- لعبته، والحال نفسه في الشعر، هناك من يتحدث عن قدرة مستقبلية للحاسب الآلي أو الروبوتات على كتابة القصيدة، أي أن الوضع في المستقبل سيتجاوز الناقد-المثقف والقارئ- الجمهور معاً، وسنكون بإزاء عالم مغاير لكل ما نعرفه، حيث سيصبح كل فرد صانع روايته..قصيدته..مسرحيته..فيلمه، وكما أعلن بعضنا عن نهاية الناقد وسقوط النخب، ربما لن يمر وقت طويل حتى يعلن أحدهم عن نهاية الثقافة كما نعرفها في الوقت الراهن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"