د. عبدالعظيم حنفي*
ظهرت ردود أفعال مضادة للنماذج الجديدة لتراكم المعرفة في أوائل التسعينات، وذلك في أوساط باحثي النمو الذين تربوا على نموذج «سولو». ولم يكن هذا مستغرباً، لأن الإطار الحديث المعتمد على المعرفة بما ينطوي عليه من تعميم لتزايد العوائد قد هدد بإحداث دمار حقيقي لقدر كبير من الملكية الفكرية.
نما تقليد عريق لحساب النمو حول نموذج «سولو». وظهر نموذج مانكيو رومر - ويل «بشكل رسمي عام 1994. وقد تم تعميده على الفور والتعامل معه على أنه نموذج «سولو» المعدل أو المزود. وكانت التداعيات التي ترتبت عليه ببساطة هي أن إضافة رأس المال البشري قد تكون كافية لحساب جميع الاختلافات الملحوظة في ثروة الأمم. وربما كانت للاختلافات في معدل إنتاج المعرفة الحديثة علاقة صغيرة نسبياً بذلك، بما أن المعرفة الجوهرية الحديثة كانت متوفرة للجميع. وربما كان التقارب نحو حالة الثبات هو الأمر الهام على الرغم من كل شيء. وقد أطلق اقتصادي شاب يدعى الوين يونج Alwyn Young على هذه الاستجابة مسمى «إحياء النيوكلاسيكية» وبحلول أواسط عام 1994 كان ذلك يتم على قدم وساق. كان «يونج» شخصية ذات تأثير قوى في هذا المجال. ظهرت ورقته البحثية «قصة مدينتين» Tale of two cities في عام 1992 وقد قدمت دراسة لخبرة النمو في فترة ما بعد الحرب في هونج كونج وسنغافورة - وهما مدينتان كانتا مستعمرتين من قبل بريطانيا وبينهما نواحي تشابه مؤسسية تسمح بالمقارنة بشكل كاف، وذلك على الرغم من اختلافهما في نواح رئيسية أخرى.
كانت أوجه التشابه بين المدينتين واضحة بدرجة كبيرة، على حد قول يونج حيث لم تتميز أي منهما بوجود موارد طبيعية باستثناء الموقع الرائع لموانئهما. وسكن كلا المدينتين المهاجرون الآتون من جنوب الصين. وانتعشت نفس الصناعات وتدهورت في المدينتين: بداية من النسيج إلى صناعة الملابس، والبلاستيك، والإلكترونيات، وفي الثمانينات، تحولتا من الصناعة بشكل عام إلى البنوك والخدمات المالية الأخرى. وفي الستينات كان الناتج المحلي للمدينتين متساوياً تقريباً.
ثم تحدث يونج عن نواحي الاختلاف. تميز سكان هونج كونج بمعدلات تعليم أكثر مقارنة بسنغافورة، حيث كانت في الأولى طبقة متوسطة عريضة من أصحاب الأعمال الذين فروا من شنغهاي، بعد الثورة الشيوعية. حافظت الحكومة في هونج كونج على سياسة تحرير الأسواق بالنسبة لجميع السلع ماعدا الأرض (حيث احتفظت بنسبة كبيرة من الأراضي الممتازة بعيداً عن السوق حتى وصل الطلب عليها إلى قدر معين). أما حكومة سنغافورة على الجانب الآخر، فقد كانت توجيهية بشكل كبير، «تختار الفائزين» من بين الصناعات الناشئة، متبعة سياسة عدوانية للادخار الإجباري، ملتمسة الاستثمار الأجنبي من الخارج. وفي الوقت الذي ظلت فيه معدلات الاستثمار في «هونج كونج» عند مستوى 20% من الناتج المحلى الإجمالي منذ الستينات، ارتفع هذا المعدل في سنغافورة من 13% إلى 40% من الناتج المحلى الإجمالي سنوياً منذ السبعينات بطريقة مثيرة للدهشة. هذه الاختلافات كانت هي ما أضفت أهمية خاصة على قصة «يونج» بالنسبة لأصحاب النظريات المتنافسة، وذلك على حد قول «يونج».
النتيجة الرئيسية: هي أنه على الرغم من أن سنغافورة قد استثمرت ضعف معدلات استثمار «هونج كونج» على مدار خمسة وعشرين عاماً تقريباً، فإنها لم تحقق النمو بصورة أسرع. حيث كان قادة «سنغافورة» شديدي الحماس في مطاردة كل بدعة جديدة: الإلكترونيات الدقيقة، الحاسبات الآلية، الخدمات المالية، والتكنولوجيا الحيوية. ومع حدوث كل هذه التطورات المجمعة، كانت حالة مواطني «سنغافورة» تسوء مقارنة بحالة نظرائهم في مدينة «هونج كونج» عالية التنوع. كان «يونج» متمكناً من البيانات الأساسية، فقد فكر ملياً في الأفكار وفي ما تعنيه. وقد اعترض على استخلاص نتيجة قاطعة. وكتب، «إن هذا القدر واضح بما فيه الكفاية»: فنماذج النمو الحديثة، بالرغم من كونها غير محددة، فإنها «حررت المهنة من القيد الفكري لنماذج النمو النيوكلاسيكية»، والتي أدت بشكل كبير إلى «الهبوط بالتغيير التقني والنمو طويل الأمد إلى عالم غير قابل للتفسير».
* أكاديمي مصري