عادي

الحمض النووي للكتابة

00:24 صباحا
قراءة 4 دقائق

القاهرة: مدحت صفوت

على الرغم من أننا لم نعد ملزمين بأن نعمل مهن أهالينا، أو أن نقطع مسار والدينا نفسه، فإن هناك بعض المهارات المهنية التي تنتقل من جيل إلى آخر في الأسرة ذاتها، أو ما نلتمسه في عدد من الأدباء ذوي القرابة، وهو ما يُطلق عليه «العائلة الأدبية».

«العائلة الأدبية»، أو توريث الإبداع ظاهرة يمكن تلمسها في تاريخ الإبداع البشري، سواء في التاريخ العربي أو غيره من تاريخ ثقافات الشعوب الأخرى، وإن بدت أكثر انتشاراً في مجالات الفنون الأخرى، كالتمثيل والإخراج، فإنها تظل موجودة وحاضرة بقوة، ما يعني إمكانية القول بإن «الحمض النووي الأدبي» فعال وعلى نحو خاص.

منذ بداية تاريخ الشعر العربي، أقدم الفنون العربية رسوخاً، وتتكرر من وقت إلى آخر عملية توارث الإبداع، ولعل أشهر العائلات الأدبية التي ظهرت قبل الإسلام وامتدت فيما بعد، هي «عائلة ابن أبي سُلمى»، فزُهير شاعر وأحد المتنازعين الثلاثة على إمارة الشعر مع امرئ القيس والنابغة الذبياني، وواحد من شعراء المعلقات السبع، وتفرعت منه عائلة شعرية، فشقيقته سُلمى شاعرة، وولداه كَعْب وبُجَيْر شاعران، وحفيده عقبة بن كعب شاعر، كما كان العوّام بن عُقبة بن كعب بن زهير شاعراً.

التوريث في تاريخ الشعر لم يكن كله خيراً كأغلب حال عائلة زهير، فأبو تمام، حبيب بن أوس بن الحارث الطائي، أحد أمراء البيان، وواحد من الشعراء الفحول وأعلام الأدب العباسي، لم يكن ابنه «تمّام» بالشاعر الكبير حتى وإن حاول نظمه، كما تشير المصادر حين مدح الأمير عبد الله بن طاهر، بأبيات ركيكة، فرفض الأخير منحه أيّ عطايا، فقال تمام: «أيها الأمير، إن الشعر بالشعر ربا، فاجعل بينهما فضلًا»، فضحك ابن طاهر وقال: «والله لئن فاتك شعر أبيك فلم يفتك ظَرْفُه».

أما في التاريخ الحديث، فنعتقد أنه لا منافس في مجال العائلة الأدبية لما قدمته «العائلة التيمورية» خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ورائدها أحمد إسماعيل محمد تيمور الشهير بأحمد باشا تيمور، والملقب ب«حافظ تراث العرب»، ورغم أصول العائلة الكردية، فإنها أظهرت عناية فائقة بالتراث العربي، وقدمت وجوهاً ناصعة في مسيرة نهضة الثقافة العربية، كبيرهم إسماعيل محمد تيمور الذي تولى رئاسة ديوان الخديوي إسماعيل، والأبناء والأحفاد من بعده، الشاعرة عائشة التيمورية، ومحمد ومحمود تيمور أبناء أحمد تيمور، اللذين برزا كرائدين للقصة والرّواية.

النجوم الزاهرة

تلي العائلةً التيموريةً، عائلةُ النّقاش، ورائدها الشاعر الأديب عبد المؤمن النقاش، أحد شعراء حركة أبوللو المتأخرين الذين جاؤوا بعد جيلها الأول، الأقل حظاً من الشهرة، أو حسبما يقول الشاعر الراحل حلمي سالم في مقدمة ديوان النقاش «ألحان الفجر»: «ولئن ذاع صيت عدد معروف منهم كممثلين لأبولو في شعرنا الحديث، فإن انصراف النقاش إلى دوره التربوي المزدوج: تربية النشء في مدارس الدقهلية ثم القاهرة، وتربية أبنائه المباشرين ليهديهم إلى الحياة المصرية والعربية كوكبة من «النجوم الزاهرة» قد شغله عن أن يجمع شعره بين دفتي ديوان، شأنه في ذلك شأن عدد من الشعراء الرومانتيكيين الذين ينتمون إلى الحركة، لكن صروف الحياة جعلت الأضواء تنحسر عنهم حينئذ، قبل أن ينصفهم التاريخ بعد ذلك، مثل محمد صالح الشرنوبي وعبد المعطي الهمشري وحسن كامل الصيرفي والعوضي الوكيل».

ولقد أنجب عبد المؤمن ثمانية من الأبناء جميعهم اشتغل بالأدب والكتابة، أشهرهم الناقد الراحل رجاء النقاش، المعروف بمكتشف المبدعين، أو بوابة عبور الأدباء العرب إلى الحياة الأدبية، كذلك الكاتبة والصحفية فريدة النقاش التي تولت رئاسة تحرير مجلة أدب ونقد لنحو عشرين عاماً ثم أصبحت منذ نهاية 2006 رئيسة تحرير صحيفة (الأهالي) لسان حال حزب التجمع اليساري، وتضم الأسرة المؤلفين المسرحيين أمينة وفكري النقاش، والمترجم وحيد النقاش والروائي بهاء النقاش.

دراسات

حسب دراسات أمريكية، فإن ممارسة الإبداع، خاصة في المجال الموسيقي، قد يكون مرتبطاً بمكوننا البيولوجي. وبينما نتعلم المزيد عن أنفسنا يومياً، يصبح من الأسهل الاستسلام للحتمية البيولوجية، ومن هنا يكتسب السؤال التالي مشروعيته: لماذا نحاول أن نكون مبدعين إذا كانت ميولنا مشفرة في أجسادنا؟ لحسن الحظ، هذا فقط جزء من القصة، فمن المعروف أن الإبداع صعب التحديد ويستعصي على المفهمة، وهو أكثر تعقيداً بكثير من سلسلة من المركبات الكيميائية.

في عام 2009، نشرت مجلة الجمعية الصوتية الأمريكية دراسة تناولت وراثة «الكفاءة الموسيقية»، وخلصت إلى أن الجينات المرتبطة بالكروموسوم 4 قد تؤثر في قدرات البشر على فهم الآلات ومعالجة المعلومات السمعية. ويمتلك البشر 23 زوجاً من الكروموسومات في كل خلية، وكل كروموسوم مقسم إلى جينات مختلفة، فيما يحتوي الكروموسوم 4 وحده على 191 مليون زوج أساسي، وهي اللبنات الأساسية للكروموسومات المسؤولة عن سمات متنوعة مثل الشَعر الأحمر والصمم. ومع ذلك، فإن السطرَ الأولَ من ملخص الدراسة يقول: «إن التأثيرات الجينية على الأمراض العقلية والمهارات والسلوكيات غير معروفة تماماً بشكل أساسي».

بيد أنّه في 2014، نشرت مجموعة من الباحثين بقيادة خبير الأورام والدراسات الجينية الفنلندي جانا أوكنن، في دورية Molecular Psychiatry، أن النشاط الإبداعي معقد دماغيًا وأساسه البيولوجي «غير معروف إلى حد كبير»، لكنهم استدركوا أن الموهبة الموسيقية يقتصر ارتباطها على كروموسوم واحد.

ومن جامعتي نورث وسترن الأمريكية وليدن الهولندية، تأتينا دراسة أخرى للنظر في الإبداع بشكل أكثر شمولية، إذ قاس معدّو الدراسة «التفكير المتباين» للمشاركين، أي القدرة على تطوير حلول جديدة ومناسبة لمشكلة ما، التي تعتبر بشكل عام مؤشراً على الإبداع، ووجد الباحثون علاقة إيجابية بين الإبداع والجينات المرتبطة بالدوبامين، كلما زاد الأخير -ناقل عصبي مرتبط بالتركيز والمتعة- زاد الإبداع.
عوامل متشابكة

الإبداع في الواقع مزيج من عناصر وعوامل متشابكة، مؤكد أن العامل الفردي هو الأكثر تأثيراً، بوصف الكتابة نشاطاً فردياً في المقام الأول، ونتاج تفاعل عدد من الشروط النفسية والاجتماعية والسياقية، لذا فإنه من المثمر على نحو أفضل أن نبحث عن الأساس الجيني للشروط المعرفية الأساسية الواسعة للإبداع، بعبارة أخرى: قد يحتاج الباحثون فقط إلى المزيد من الإبداع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"