كتاب ومنضدة وقهوة

00:02 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.يوسف الحسن

ما أجمل «مناضد القهوة» في منازلنا أو مجالسنا، حينما تتوشح بكتب الفنون الجميلة، الجميلة في ذاتها، كثمرة للمهارات الأدبية والإبداعية، والجميلة في وظائفها ومقاصدها وتأثيرها.

إن اقتناء هذه الكتب المجلدات، وبورقها المصقول والثري في ألوانه وصوره وإخراجه، والمدهش في محتواه، ليس ترفاً إنسانياً، وإنما هو تنمية للإحساس الجمالي لدى الإنسان، وللملكات التي أنعم الله بها عليه.

وكم أُسعد حينما أشاهد هذه الكتب تُزيِّن «مناضد القهوة» في مجالس أصدقاء، يطالع فيها الزائر تعبيرات وأيقونات فنية، ومعماراً ورسوماً ولوحات ونقوشاً وعمارة وصوراً وحكايات وذاكرة أمكنة.. إلخ.

ومن بين هذه الكتب التي أعتز بها، وتُزِّين أركان «ومناضد» في مكتبتي ومجلسي، مجلدات ثلاثية «فنون عصر النهضة» - الباروك والرينيسانس والروكوكو - والتي أبدع ثروت عكاشة في تقديمها وشرحها وعرض رسومها وصورها، وقد اقتنيتها، وحملت توقيع وإهداء صاحبها منذ أكثر من عقدين من الزمان.

ومن بينها أيضاً، مجموعة من الصور التاريخية النادرة للمصور راميش شوكلا التي تؤرخ بصرياً، للإمارات منذ 1965 وحتى 2010، وكذلك مجلدات مصورة لكنوز القدس المملوكية، والفن والعمارة الأندلسية وغيرها.

وقد اقتنيت مؤخراً كتاباً مجلداً أنيقاً أعدته صحفية ومصورة فرنسية، وترجمته رجاء الملاح، زوجة الروائي الصديق شاكر نوري، ووضع مقدمته، ويحمل العنوان «أين كانوا يكتبون - بيوت الكتّاب والأدباء في العالم» وقد نشرته «أبوظبي للثقافة والتراث» قبل أكثر من عقد.

وقد كان الروائي الصديق شاكر نوري محظوظاً حينما تمكّن من زيارة بيوت عباقرة الأدب في فرنسا، والتي تحولت إلى متاحف بعد تأهيلها للزوار.

يصور هذا الكتاب - المجلد ويشرح، الأمكنة والبيوت التي شيَّد فيها عدد كبير من المبدعين والروائيين، أفكارهم وعوالمهم، من أمثال: ألكسندر دوما، وبلزاك، وفلوبير، وإميل زولا، وجورج صاند وغيرهم.

تبدو صور بيوت هؤلاء المبدعين، وبتفاصيل دقيقة لشرفاتها وحدائقها ومواقعها، ومعمارها، قصوراً أنيقة، مسكونة بالطبيعة والموسيقى والجمال الأخّاذ، ويذكر الكتاب أن الكاتب جيونو قد اشترى بيته بإيرادات روايته الأولى في مدينة مانوسك في الألب، في حين أن بيت الروائي أرنست همنجواي صاحب الرواية الشهيرة «وداعاً أيها السلاح» كان يقع على شاطئ كي ويست في آخر نقطة في المحيط الكاريبي، ولا يبعد عن كوبا إلا نحو 90 ميلاً؛ حيث يذكره بأجواء الصيد في إفريقيا، وأسرار البحر، التي أوحت له كتابة روايته «الشيخ والبحر».

تذكرت، وأنا أطالع صفحات هذا الكتاب، وأتأمل تلك الصور الملونة والمدهشة لبيوت مشاهير الأدب بلوحاتها الفنية وشرفاتها، وديكورها، ومقاعدها وركن الكتابة التي اعتاد هؤلاء، الإبداع فيها، تذكرت أحوال بيوت وأماكن كتابة، المبدعين العرب، من روائيين وشعراء ونقاد وفنون جميلة؛ حيث يلعب البيت أو المكان، دوراً مهماً في حياة الكاتب؛ وحيث يُرتّب فيه أوراقه، وذكرياته وأفكاره ويسافر خياله إلى فضاءات غير محدودة.

تحضر إلى الذاكرة زيارة لي، مع زميلين، وأثناء دراستنا الجامعية في الستينات، إلى منزل شيخ النقاد العرب المرحوم د.محمد مندور صاحب أطروحة الدكتوراه «النقد المنهجي عند العرب».

وقد جئناه، نسأله أن يكتب لنا، مقالاً قصيراً، لكي نضعه في صدر «مجلة» حائط (تشبه مجلات الحائط المدرسية في تلك المرحلة)، كنت قد صممتها، وملئت معظم أعمدتها بأخبار وتعليقات اجتماعية وسياسية وأدبية، وعلقتها على ظهر باب الشقة من الداخل، والتي نقطنها مع ثلاثة أصدقاء في حي جاردن سيتي بالقاهرة.

فوجئنا وقتها بأن شيخ النقاد يقطن في شقة متواضعة للغاية وعبرنا إلى مكتبته؛ حيث يجلس وراء مكتب بسيط تتراكم عليه عشرات الكتب والمجلات، ومحاطاً بعدد من الخزائن الخشبية التي تضم خليطاً من الكتب وبشكل فوضوي، وقدمت لنا زوجته الشاعرة ملك عبدالعزيز، الشاي (توفيت الشاعرة تحت أغصان شجرة قديمة سقطت فوقها وهي تسير أمام بيتها في حي الروضة بالقاهرة) وغادرت المكان. هكذا هو حال معظم أدباء ومبدعي الستينات، كتبوا بالريشة والحبر والقلم والآلة الكاتبة والمعاناة، وكانت حقبة جميلة ووصل فيها الأدب والسينما والفنون الجميلة قمة مجدها، وقد أحدث أدب الستينات تأثيراً بالغاً في السينما الروائية المصرية، مثل روايات نجيب محفوظ ويحيى حقي والسباعي وإحسان عبد القدوس وطه حسين وغيرهم.

تذكرت وأنا أتصفح كتاب بيوت أدباء الغرب وأماكن إبداعاتهم، وعادات هؤلاء وطقوسهم في الإبداع، حال بيوت شعراء وأدباء عرب أفذاذ، كيف تُهجر أو تُهدم، وبعضها قد يتحول إلى مرأب، أو دكان لبيع الحلويات.

في الغرب، تتولى المؤسسات الثقافية بيوت هؤلاء المبدعين، وقد تحول البيت إلى متحف، مثلما فعلت فرنسا لشاعرها آرثر رامبو؛ حيث قامت وزارة الثقافة الفرنسية بشراء مبنى كامل، لأن الشاعر كان يقيم في شقة في المبنى المذكور.

ذكَّرنا الصديق محمد المر، قبل أسابيع، برحيل النحاتة والفنانة التشكيلية المبدعة منى السعودي وكيف لم يهتم الإعلام العربي برحيلها، وهي التي زرعت منحوتاتها في أكثر من مكان في العالم، وأبرزها منحوتة «هندسة الروح» الموجودة أمام معهد العالم العربي في باريس.

يا تُرى كيف هو حال ومصير بيتها، والمشغل الذي شهد ولادة منحوتاتها المدهشة؟ هل «سيذهب.. مع الريح»؟

 أعود وأقول: ما أجمل «مناضد القهوة» حينما تتوشح بكتب وصور وأيقونات وأمكنة مبدعين وأدباء، وحينما تلامس أصابعنا صفحاتها وتبث القهوة رائحتها، تبطل تعويذات الإرهاق والرداءة والعزلة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"