«أثر الفراشة لا يزول»

00:02 صباحا
قراءة 5 دقائق

د.يوسف الحسن

هي حكمة إنسانية قديمة، عرفتها حضارتنا العربية والإسلامية، ويرددها الخواص، وخواص الخواص والعوام، وتقول هذه الحكمة، والتي تجيء أحياناً ضمن بيت من الشعر، إن «معظم النار من مستصغر الشرر».
حدث صغير وقد يُستخَف به، إلا أنه يحمل في أحشائه مقومات الانتشار والتنامي والتأثير، فتجعل منه دماراً وهلاكاً.
مسلكيات ومواقف غير نزيهة، وغير سوِّية، نحسبها «هيّنة» لكنها تتعاظم وتكبر مثل كرة الثلج، وتتكرر ونتجاهلها، إلا أنها تكون محفزاً لانفجارات كبرى في القادم من الأيام.
شَرَر «الفساد والهدر وسوء الإدارة»، يبدأ صغيراً، وإهماله وهو يكبر ويتسع ينتهي إلى مخاطر غير محسوبة.
الأمثلة كثيرة في حياتنا العربية المعاصرة، ومنها: الرقص (الذي نستهين به) على أنغام الطائفية والمذهبية، يدمر أوطاناً ويشرد شعوباً ويفكك أنسجة المجتمعات وسلمها الأهلي، ورأينا كيف أن «الإرهاب كان أوله كلام»، وكيف تسللت قوى إقليمية ودولية «وغير دولاتية» إلى الجسم العربي، من خلال ثقوب وفراغات، بدأت صغيرة، وكبرت حتى اتسع «الخرق على الراتق» ورحنا «نضرب كفّاً بكف».
إن تفكيك وتحليل ومعالجة الأحداث والمسلكيات الصغيرة، وحتى تلك التي لا تُرى، ضرورة وطنية وإنسانية في آن.
لنتذكر في هذا الإطار «معظم النار من مستصغر الشرر»، تلك النظرية الفلسفية والفيزيائية، المسماة ب«أثر الفراشة»، والتي أطلقها عالم أرصاد أوروبي في العام 1963، وقال ما معناه: «إن رفرفة جناح فراشة في غابات الأمازون، يمكن أن تتسبب بعد وقت، في حدوث إعصار في تكساس». تعبير بسيط صار مثلاً، وألهم شاعراً هو محمود درويش ليصدر ديوانه حاملاً اسم «أثر الفراشة»، حيث يقول في قصيدة منشورة فيه:
«أثر الفراشة لا يُرى
أثر الفراشة لا يزول
........
مثل أغنية تحاول أن تقول وتكتفي
بالاقتباس من الظلال ولا تقول
نتذكر مثلاً ما حدث قبل أكثر من مئة عام، حينما قام طالب من صربيا باغتيال ولي عهد النمسا وزوجته فرانز فرديناد في يونيو 1914، أثناء زيارتهما إلى مدينة سراييفو.
حادث عادي قد يحدث في أي مكان، لكن أثر هذه (الرصاصات  الفراشات) أدى، بعد إطلاقها بنحو شهر، إلى نشوب الحرب العالمية الأولى، والتي استمرت أربع سنوات، وإلى حدوث جرائم إبادة جماعية، ومقتل أكثر من 16 مليون شخص، وظهور وباء «الإنفلونزا الإسبانية» في نهاية الحرب، والذي تسبب في وفاة أكثر من خمسين مليون شخص، كما تسببت هذه الحرب بانتهاء الدولة العثمانية، وإمبراطوريات أخرى، وصولاً إلى إنشاء منظمة «عصبة الأمم».
حدث آخر، «فراشة» أخرى، رفرفت بجناحيها في مدينة سايغون عند تقاطع شارع قريب من القصر الرئاسي، في صبيحة اليوم العاشر من شهر يونيو عام 1963، حينما تقدمت سيارة صغيرة موكباً كبيراً من الرهبان والراهبات البوذيين، ينشدون تراتيلهم الدينية، ويرفعون لافتة تطالب بالحرية الدينية.
توقف بعض المارة، وبعضهم استأنف طريقه؛ إذ لا جديد في مظاهرة للرهبان، في مرحلة ما سمي «الحرب الفيتنامية»، وفجأة توقف الموكب، وشكّل الرهبان نصف دائرة حول السيارة الصغيرة، ثم وقفوا صامتين.
ترجل ثلاثة رهبان من السيارة، ووضع أحدهم وسادة على الأرض، وسار الراهب الثاني وجلس على الوسادة، متخذاً وضعية زهرة اللوتس، وأغمض عينيه متأملاً، وتقدم الراهب الثالث، وتناول من السيارة برميلاً صغيراً مملوءاً بالبنزين، وسكبه على رأس الراهب العجوز، فوجئ الناس، وبعضهم غطّى عينيه، وذهل رجال الشرطة مما يرون، وظل الراهب العجوز ساكناً، وأخرج من جيبه ببطء علبة كبريت، وأشعل عوداً وأضرم النار في جسده، وسرعان ما ابتلعت النار الجسد، وامتلأ الهواء بروائح اللحم المحترق والبنزين، بدأت الصرخات تنطلق من جموع الناس.
أثار المشهد الذي نقلته آلة تصوير كان يحملها أحد المراسلين الصحفيين، غضب الملايين من الناس في العالم.
فراشة رفرفت بجناحيها وطارت، تركت أثراً هاماً، عود كبريت وراهب يحترق، وصورة للمشهد تنتشر في العالم، أطاحت نظام دييم، رئيس فيتنام الجنوبية، المتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في ذلك الوقت، وأججت حرب فيتنام وهي حرب غير أخلاقية، وغير مبررة انتهت في عام 1975 وخسرت فيها أمريكا أكثر من خمسين ألف جندي، وسُجلّت أسماؤهم على نصب تذكاري من الجرانيت الأسود، أنشئ في عام 1982، وموقعه في حديقة الدستور، بجوار النصب التذكاري لإبراهام لنكولن في العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي.
فراشة أخرى، وهذه المرة، فراشة عربية، رفرفت بأجنحتها ذات يوم من أيام ديسمبر في عام 2010، في حي سيدي بوزيد في تونس، وتركت أثراً خطراً وممتداً، حينما قام شاب تونسي، يعمل كبائع متجول، واسمه طارق بن محمد البوعزيزي، بإضرام النار في جسده (ومات بعدها بأسابيع)، احتجاجاً على مصادرة البلدية لعربته التي يبيع عليها الخضار والفاكهة لكسب رزقه. لم تتقبل السلطات شكواه، وقيل إن شرطية صفعته على وجهه أمام الملأ (نفت الشرطية قصة الصفعة فيما بعد)، وقالت له بالفرنسية: ارحل..
وكان أثر هذه الفراشة كبيراً، اشتعلت اضطرابات وانتفاضات واحتجاجات شعبية في عدد من الدول العربية، وتنوعت الأسباب والتداعيات، وراكبو موجاتها، وتسببت في نهاية المطاف، بدمار هائل، وضحايا ولاجئين ونازحين وأزمات وحروب أهلية وعنف وإرهاب وأوجاع، وتدخلات إقليمية ودولية بأجندات متنوعة.
فراشة أخرى رفرفت جناحيها في شريط مسجل لحديث صحفي خاص مع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات أجراه صحفي مشهور، إثر توقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد، وانعقاد مؤتمر في بغداد في نوفمبر 1978 قررت فيه سبع دول عربية مقاطعة مصر، وقام الصحفي المشهور بتسليم الشريط المسجل إلى زعيم دولة عربية، والذي يحوي شتيمة «غبي» أطلقها السادات على ذلك الزعيم.
وحينما انعقدت قمة عربية في تونس، لتأكيد استمرار المقاطعة وتعليق عضوية مصر في الجامعة العربية وتعيين الشاذلي القليبي كأول أمين عام غير مصري للجامعة، كان تأثير رفرفة جناح الفراشة، في ذلك الشريط المسجل، كبيراً على زعيم تلك الدولة العربية، والضغط باتجاه توسيع المقاطعة وإطالة أمدها اليوم.
تبدو لرفرفة أجنحة الفراشات في روسيا وأوكرانيا تأثيرات هائلة: أعاصير سياسية واقتصادية، وأوجاع وضحايا، واصطفافات وزعزعة لنظريات ونظم تجارية وإعلامية.. إلخ.
قد يحدث التأثير بعد يوم أو بعد شهر أو سنوات، لكن لا أحد يجرؤ على مساءلة الفراشة حول الوقت والتأثير، أو إقناعها بأن لا تطير أو حتى تترفق بالعالم، أو أن الظرف غير ملائم للطيران.
.........
لنتذكر أن الفراشات مخلوقات رائعة بألوان زاهية، ومن حظ العالم أن متوسط أعمار معظم الفراشات لا يتجاوز أسبوعين. مع ذلك، فإن أثر الفراشة لا يزول.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"