عادي
قرأت لك

«تربيع أول»..«نوفيلا» تداعب القمر

14:54 مساء
قراءة 4 دقائق
سعيد الحنكي
  • - الناشر: مداد للنشر والتوزيع 2018

الشارقة: يوسف أبولوز
تشكلت في الإمارات في العقود الثلاثة الأخيرة تحديداً ظاهرة سردية لم ينتبه إليها نقاد الرواية بشكل خاص، لكنها ظاهرة موجودة وتقوم على أعمال سردية يمكن تعيينها في الكتابة الأدبية الإماراتية، وتتمثل هذه الظاهرة في ما يُسمى ب«النوفيلا»، ومن المعروف أن «النوفيلا» فن أدبي سردي أطول من القصة القصيرة، وأقصر من الرواية، وهناك من يعيد هذا الفن إلى القرن الرابع عشر، فيربط بين قصص «الديكاميرون»، للكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو، وبين «النوفيلا»، لكنني ومن وجهة نظر شخصية لا أرى أية علاقة بين «النوفيلا» و«الديكاميرون»، ففي «الديكاميرون» قصص قصيرة لا ترقى إلى كونها روايات طويلة إذا اعتمدنا مسألة الحجم معياراً لتعريف «النوفيلا»، غير أن هناك تعريفات عديدة ل فن «النوفيلا» تعود إلى بعض كتابات أدباء ألمانيا في القرن الثامن عشر.

من أشهر كتّاب «النوفيلا» العرب الكاتب محمد المخزنجي في عمله القصصي «بيانو فاطمة»، و«يتفلسف» المخزنجي إذا أردت القول ويقترح شكلاً آخر ل«النوفيلا» يسميه «التكريسة» وفي اللغة «كرّس» الشيء: ضمَّ بعضه إلى بعض، ويقال كرّس حياته للعلم: وقفها عليه، ويضيف المخزنجي على هذه الاشتقاقات مفردة «الكراسة»، أي: إضمامة من الورق تُهيَأ للكتابة، كأن «النوفيلا» إضمامة أيضاً من الورق لا هي كبيرة، ولا هي صغيرة.

*حالة

مهما كان تعريف «النوفيلا» في المصطلح أو في النقد أو في التوصيف، فقد استطعت تعيين حالة كتابية إماراتية ترقى إلى وصفها ب «ظاهرة النوفيلا» في الأدب الإماراتي، وسوف أعرض للقارئ نصوصاً من وقت إلى آخر ربما تشكل معاً ظاهرة أو قاعدة لظاهرة أدبية إماراتية أرجو أن يتابعها النقاد على نحو احترافي، والنصوص هي: رواية «تربيع أوّل» لسعيد الحنكي، ورواية «سيح المهب» لناصر الظاهري، ورواية «الديزل» للشاعر – ثاني السويدي، ورواية «الموسيقى والحياة» لمريم غريب، وجميعها روايات قصيرة، وتقع عملياً في توصيف – «النوفيلات»، وعلى مدى أسابيع قادمة سأقرأ لك هذه النوفيلات محاولاً وباجتهاد قرائي لا أكثر ولا أقل ومن دون مصطلحات «فخمة» أن أجد المشتركات الواقعية، والبيئية، والنفسية، والمكانية، بين هذه «النوفيلات» السردية الإماراتية.

سعيد الحنكي، من قصّاصي الثمانينات، توقف فترة عن الكتابة، وعاد في عام 2018 ليبشّر الوسط الثقافي الإماراتي بهذه الرواية -النوفيلا «تربيع أول» وتقع في نحو 110 صفحات من القطع المتوسطة، وهي في رأيي «نوفيلا» لأن أحداثها ليست معقدة أو متقاطعة أو درامية أو ملحمية كما هو الأمر عادة في الروايات، وبكل بساطة فإن راشد بن هلال المرعزي له بيت متهالك قديم بالقرب من شاطئ البحر، يقف على إطلالة أو يقف في محيطه المكاني والنفسي، ويأخذ باستعراض شريط حياته ذكريات وراء ذكريات، في منطقة المعيريض أو في حي المعيريض في رأس الخيمة.

المرعزي «والمرعز نوع من العُقُلْ، جمع عقال معروف بجودته يصنع من الشعر الناعم للماعز» رجل متعلم فهو يحمل درجة جامعية مرموقة في تخصيص التسويق؛ بل هو أستاذ جامعي، ونعرف من الرواية أيضاً أن له وظيفة مرموقة أيضاً في مصنع للأسمنت، والرجل ومن سياق النص ميسور الحال، وليس معدماً، ويحمل في ذاته كرامته واستقلاليته الشخصية، وهو إذ يعيد شريط حياته وهو واقف في بيته المتهدم العتيق بالقرب من البحر، يقرر أن يتخلّى عن كل شيء:.. الجامعة والتدريس والوظيفة في المصنع، ويصبح «قلّافاً»، و«القلافة» قديماً في الإمارات هي صناعة القوارب، وقد كانت صناعة رائجة قديماً إلى أن ظهر اللؤلؤ الصناعي الياباني، فضربت مهنة الغوص على اللؤلؤ في المنطقة، كما ضربت مكانة النوخذة، وغير ذلك مما يتصل بزمن وثقافة واقتصاد البحر أو الغوص.

في نهاية «النوفيلا» يفاجأ بطل الرواية أو شخصية «النوفيلا».. المرعزي، بأن المكان الذي ينوي إقامة ورشة القلافة عليه، وهو بيته القديم هذا أو بيت العائلة القديمة.. قد أصبح عقاراً حكومياً لا يستطيع التصرف فيه.

ولكن من أين جاء عنوان الرواية «تربيع أوّل» وهو عنوان يحيل إلى ما هو رياضي «علم الرياضيات»؛ بل التربيع هنا هو الربع الأول من القمر أو القمر في تربيعه الأول وهو فوق البيوت «.. معلّق في طرف السماء، ذات النجوم المتلألئة، فوق الزوايا الغريبة للبيوت الكامدة».

النوفيلا هنا هي رواية بحر، المرعزي ابن بحر أصلاً، وإلا لماذا يريد أن يعود قلافاً.. صاحب مهنة متعبة أين منها راحة وبزخ وظيفة الأستاذ الجامعي؟ لكن البحر. السوسة التي تعشش في دم البحارة وكل من هو من طينة هذا القلّاف.

«تربيع أوّل» رواية مكان أيضاً، يتجلى حي المعيريض بكل ذاكرته في النص، وإن كانت الصور سريعة، والوقوف على طلل البيت أوقف الرجل في حنينه وفي ذاته المونولوجية هذه..نعم، «نوفيلا» مونولوج بامتياز. صور وراء صور. وجوه وراء وجوه بخاصة وجه أخته «عذبة» التي ماتت صغيرة، ولكنها تركت غصّة كبيرة في قلوب أفراد عائلة المرعزي.

نعرف الكثير عن الحياة الأولى القديمة في الإمارات من خلال هذه «النوفيلا».. الغنائية، الحنينية، نعرف كيف كان الأطفال يجري ختانهم في طقس عائلي احتفالي لا يمكن أن يجري اليوم في عالم الثقافة المعاصرة.. ثقافة المول والإنترنت والسفر العابر للقارات بالطائرة والهاتف والكمبيوتر.

* حنين

تعرّفنا «تربيع أول» بأن المرأة في الإمارات كانت متعلمة، مطوّعة، ومعلمة، وقارئة قرآن.. ومن المطوّعات كما جاء في الرواية: «ثنية بنت عوض، كعادتها تحمل عصا رفيعة، كانت تشير بها إلى تلامذتها الشكسين..» ثم الأستاذة «محفوظة».. صاحبة الابتسامة الصافية.

«تربيع أوّل» تصوير شعبي لزمن ما قب الكهرباء في الإمارات، كل فرد في المقيظ له حصّته من الطعام: رطب وسمك وأرز أو اليقظ المسحون يُضاف إليه الماء والسمن البلدي...

«تربيع أوّل» تصوير آخر لمعمار زمان؛ حيث البيوت بأحواشها الواسعة مفتوحة الأبواب دائماً تحيل إلى رحابة الناس وعائليتهم وتعاونهم الفطري.

يصف سعيد الحنكي حياة ماضية برمّتها. بكل ما كان فيها من فطرة وتضامن وصحة. بكل ما كان فيها من معتقدات شعبية، ولغة شعبية:.. كانوا مثلاً يدفنون في الرمال الناعمة غلفة الطفل بعد قطعها من عضوه عند الختان، وإذ يتختن الطفل فقد أصبح في مصاف الرجال.

«نوفيلا» عذبة، جاءت بلغة فطرية؛ بل شعبية، ليست غريبة عن روح المكان وهويته التراثية والروحية والثقافية. كتابة صادقة بلا استعراض ولا مبالغة سردية ثقيلة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p86n9ma

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"