عادي
قرأت لك

«العبور إلى الميلاد»..القصيدة قدر الشاعر

15:32 مساء
قراءة 5 دقائق
الكتاب

الشارقة: علاء الدين محمود
يظل المبدع على نحو مستمر في حالة حنين دائم إلى أوقات ولحظات مضت، ومهما أنتج من نصوص ومؤلفات وإصدارات، فإنه يعود إلى تلك الكتابات الباكرة لما تحمله من عطر ووهج وسحر خاص لا يكاد يبطل مفعوله، لأن تلك الإبداعات القديمة ترتبط بتجارب ومواقف في الماضي لا تفارق الذاكرة.
الشاعر والكاتب الدكتور منصور الشامسي، يمارس في كتابه «العبور إلى الميلاد... قصائد باكرة:1982 ـ 1984»، الصادر في طبعته الأولى عام 2023، عن دار «ميتا فيرس بريس»، فعل التقليب في نصوصه الشعرية القديمة التي ألفها في بداياته مع الكتابة الإبداعية، حيث يأخذه الشوق إلى تلك اللحظات المتوهجة بألق الصبا والشباب، غير أن دافع المؤلف ليس الحنين وحده، فهو يقول في تقدمة الديوان: «العودة للقصائد الباكرة ليست وقوفاً على الأطلال، وإنما وقوف على مهاد القلب، كملاح عائد إلى مراسيه واكتشافاته القديمة حتى لا يذهب الشعر بعيداً عني؛ بل أجعله في سياق تاريخي متصل، فليس ثمة قطيعة؛ بل استئناف لماضٍ شعري وحاضر شعري في اتجاه مستقبلي واعد بالشعر، أيضاً في الممارسة والتطبيق، فالشعر تطبيقات في الحياة وأداة تغيير نحو الأفضل والأجمل والأحسن والأرقى والأعذب. الشعر عابر للجهات والحدود فهو (عولمة)، بحد ذاته، فالشعر متصل بالواقع والحياة اليومية».
*شرارة
الكتاب يؤكد على أهمية النصوص الشعرية القديمة في حياة وتجربة أي شاعر، فهي الشرارة الأولى التي أعلنت عن ميلاده الأول، وهي اللحظة ذات التأثير المقيم في مجمل إبداعاته المستقبلية، لذلك تعد العودة إلى تلك الإنتاجات الأولى مهما كانت عفوية، أمر في غاية الأهمية فهي تجدد قاموس الشاعر وتلهمه بالأفكار الجديدة، والأهم من ذلك تجعله متصلاً بالشعر بلا فكاك، فالقافية هي قدره الجميل، وربما ذلك ما جعل الشامسي يؤكد على أن العودة إلى القصائد التي ألفها في الماضي هي بمثابة احتفاء بالشعر، فالفترة التي كتب فيها الشاعر تلك النصوص في بداية ومنتصف ثمانينات القرن الماضي، كانت حقبة ثرية وحافلة بالأحداث على الصعيد العربي، وكذلك على المستوى المحلي، حيث شهدت الإمارات متغيرات كبيرة على جميع الصعد، لا شك أنها أسهمت في تكوين وجدان الشاعر ورسم معالم نصوص هذا الديوان، كما أنها كانت حقبة الصبا والشباب حيث الحماس والأحلام الكبيرة التي تستشرف المستقبل.
الكتاب يقع في 186 صفحة من القطع المتوسط، ويضم العديد من العناوين اللافتة التي يكثف بعضها النصوص في مفردة أو مفردتين، ويطلق البعض الآخر العنان للكلمات إذ يهيمن القول ويشكل عنواناً كبيراً، وجميعها لا يخلو من الشاعرية، وهي: «ترانيم صوتك»، «الصمت والانتصار الطفولي»، «الطفلة وفارس الفجر»، «بزوغ الأمل... أفول الضياع» «أغنية للعشق والوطن»، «ترتدين البحر والسماء فوق زوايا الانحسار والتراجع»، «أيتها الفراشة من يمنحك ميقات الإثارة؟»، «رؤى»،«وعد»، «ورقة في حديقتك... ورقة في الطريق»، «أنشودة طفلة القرار والوعد المكابر»، «إطلالة»، «ساقية القلب»، «العبور إلى الميلاد»، و«إغفاءة الحلم... بداياته»، كما يضم الكتاب توطئة ومقدمة وإهداء شفيفاً.
*إضاءة
ويقدم المؤلف إضاءة حول عوالم الكتاب ونصوصه في تمهيد الإصدار، إذ يشير إلى أن الديوان هو بمثابة احتفالية بحلم بعيد، يعود، ويتناسخ، ويجيء من جديد، فهو يضم القصائد الباكرة؛ البدء والأصول والمواضيع والجذور والثمار والإضاءات والظلال، والمخيلة الشِّعرية واليقظة الأولى؛ ويقول عن قصائد الديوان: «هي حكايات نبض شعري الأول؛... نسيج القلب الخفي، التذبذبات المُبكرة، ذلك المكان الشِّعري، مراكز الإضاءات الباكرة وذاك الضوء البعيد، وتلك الروح التي شكلت الشعر الأول، صوت كلمات وجمل غابت ونامت؛ أوقظها بشوق، الآن، مُمسك بها في تساؤل جديد، قصائد الماضي الذي كنته، كشف آثار الأقدام، الحقيقة التي حلمتُ بها طفلاً وفتى وصبياً، وسكناي الأول عند زورق رحل وعلى ظهره شعاع، مطر كان وزهور نمت، وجذب عتيق، وانجذابات توالت أوقات أَوْمَضَتْ فيها أحاسيس، وتمايلت فيها غصون، تتلألأ قطرات ندى على باب غرفتي في بيتنا القديم وانسابت على أوراقي، ونسيم مر، وشمعة توقدت، واستغراق، مقدمة تنسال كدفق شعوري لطيف، يعبر عن عوالم تلك الكتابات، ويسرد حكايتها، كيف تشكلت والمواقف التي صنعتها حتى رسخت في القلب والذاكرة».
*عنوان
وربما يتوقف قارئ الكتاب عند عنوانه "العبور إلى الميلاد"، كعتبة تعكس روح تلك النصوص، وتحمل أبعاداً أخرى، فلئن كانت تلك القصائد القديمة للشاعر هي بمثابة ميلاد أول أعلن عن بداية تجربته مع الشعر والأدب، فهي كذلك جسر أتاح العبور نحو ميلاد جديد بعد أن أصقل الشاعر تجربته بالخبرة الحياتية، وتمكن من أدواته الفنية والإبداعية، حيث إن أثر تلك النصوص ظل قائماً في حياة الشاعر، تفتح له في كل مرة بوابة جديدة وأفق مختلف، وتبدو دلالة العبور في العنوان واعدة وتحمل العديد من الإشارات تماماً كما هي نصوص الشاعر المترعة بالرموز والعلامات، فالميلاد هو لحظة جديدة في حياة أي مبدع، لكنها لا تنفصل عن الماضي، بل تأخذ منه السمات والقسمات، ولكأن الشاعر أراد أن يقول إن قصائد الأمس واليوم والغد هي قوام مشروعه الشعري، فهنالك رابط قوي بين تلك النصوص لا تنفصم عراه.
إضافة إلى ذلك فإن عنوان الكتاب مأخوذ من إحدى قصائد الديوان، وهو النص المحتشد بالأسئلة والغني بالإشارات والرموز التي لم تثقل النص بقدر ما أنها أعلنت عن فكرته ورؤيته وحملت معانيه، حيث يمارس الشاعر فعل التأمل العميق في الطبيعة والأشياء، ويثير الأسئلة، ويعقد التشبيهات والاستعارات من أجل أن يصنع صوراً نابضة بالحياة، والشاعر يقول في بعض من هذا النص:
مِنْ هُنا/ مَرَّ رَبِيعٌ في جَوْقَةٍ مِنْ نَدَى/ يُشَكِّلُ سِماتِ الْمَطِرِ القَادِمِ/ مِنْ بَعِيدٍ هُوَ قَادِمٌ/ مِنْ لا شَيْءَ يَصْدُقُ وَعْدَهُ/ يَخْطُو كَالجِرَاحِ/ يَحْضُرُ/ يَرْقُبُ/ يَنْظُرُ/ يَدُقُّ الشُّرُفَاتِ والحَنَايا/ عَلى عُيُونٍ أَلِقَةٍ/ تَنْبُتُ فَيها شُعَلُ الغَمَامِ/ فَلا سَبِيلَ إليَّ/ حَبيبَتي لا سَبِيلَ.
الكتاب وجد صدى جيداً وحظاً من التناول النقدي، خاصة تلك الإضاءة الكاشفة لعوالم النصوص وما وراءها، والتي كتبها الناقد الدكتور عمر عبد العزيز في توطئة الديوان، إذ يرى بأن الكتب، بصورة عامة، هي متنوعة كتنوع الزهور في البرّية، ولكل زهرة نكهتها ولونها المميز، لكن القاسم المشترك بين أنواع الزهور هو كونها جميلة من حيث الأساس، مُتبرجة في مفاتنها وتنغيماتها البصرية المتوازنة مع المروج الخضر والطبيعة الخلابة، كما أن لكل كتاب نكهته، ونمط بنائه، وسبكته اللغوية الخاصة، والأهم من هذا وذاك أن لكل مؤلف مرجعياته الدلالية وأُسلوبه الخاص والمخصوص، مشيراً إلى أن ذلك الأمر ينطبق إلى حد بعيد على هذا الكتاب حيث يستعيد المؤلف نصوصه الشعرية السابقة، مراهناً على الإحالات الذهنية والذوقية المتصلة بتجربته، وهو في ما يفعل ذلك كمن يرمم المسافة الزمنية بين ما كان وما هو كائن، ليؤكد أن ما تم تسطيره منذ عقود خلت إنما يحتمل سطوراً غائبة، ورؤى متداعية تمخر عباب الزمن لكي تمنح زمن الإبداع استمراريته، ففي هذا الإصدار نقف عند تخوم الحداثة الشعرية المبكرة لدى المؤلف الشاعر، كما نستعيد ومضات من ألق التعبير والمعنى، ونلامس مجد الثمانينات من القرن العشرين المنصرم في أفق الثقافة العربية المتطلعة إلى الجديد والأجد.

د.منصور الشامسي




.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2w45k5bz

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"