عادي

الدهر يومان

23:40 مساء
قراءة 3 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن
كلما ذُكرت مدينة البندقية (فينيسيا) الإيطالية، يحضر ذلك الصوت الشجي للمجاديف، وهي تلاطم صفحة الماء، والقناطر والجندول والساحات، والمياه من كل جانب تخفق كلها في سكينة ورومانسية أخاذة.

تقودني الذاكرة إلى هذه المدينة الفريدة؛ حيث تعددت زيارتي لها بمرافقة الأبناء ورفيقة العمر، وكم من مرة، ركبنا (الجندول) في قنواتها، وعبرنا جسر (التنهدات) وأنصتنا لغناء ملّاح القارب، وهو يعبر الشوارع المائية للمدينة، وتلفت انتباهنا مقدمة القارب التي تشبه عنق (البجعة)، برأسها المنتصب، والطلاء الأسود اللامع لجوانبه، والزخارف النحاسية، وفق تقاليد القرن السادس عشر الإيطالية.

توقفت طويلاً أمام نشرة الأخبار المصورة، في مطلع هذا الشهر، وهي تنقل للعالم، حالة الجفاف التي أصابت قنوات وشوارع المدينة، وانحسار المياه إلى درجة غير مسبوقة، فتعطلت القوارب وسيارات النقل المائية، ورست القوارب على أطراف اليابسة، والشوارع الموحلة.

تذكرت مسألة التغير المناخي، وحالة الجفاف وغضب الطبيعة، وشوارع مدن أخرى أكثر بؤساً وجفافاً.

عادت بي الذاكرة إلى ساحة القديس مرقص في البندقية؛ حيث اتخذت مراراً مقعدي في مقهى (فلوريان) العتيق، أشاهد الحمام، وهو يحط بسلام (طار حمام السلام في أوروبا مؤخراً) في الساحة المحاطة بأعمدة وجدران مزينة بلوحات مصورة ساحرة، ومسرفة في زخارفها.

وطاف في الخاطر قصر (الدوج) وصعودنا مشياً على الأقدام كل يوم جسر (ريالتو)، وتلك الرهافة في الحس ورقة الطباع عند أهل البندقية.

وكم وقفنا طويلاً أمام روائع التصوير في متحف (الأكاديميا) وتأملنا قصورها وكنائسها ورخامها المتعدد الألوان، والذي يؤجج المتعة الحسية للإنسان.

عاش في البندقية أعلام كبار في المعمار والموسيقى والرسم والفلسفة، من بينهم الموسيقى الشهير (فاجنر)، والعاشق الشهير الأسطوري (كازانوفا).

وقد انتشر في هذه المدينة الورع الديني في القرن السادس عشر، ونقل، أو سرق، البحارة البنادقة رفاة القديس (مرقص) من الإسكندرية إلى مدينتهم، واتخذت البندقية من الأسد، الذي كان رمزاً للقديس، شعاراً و(شفيعاً) لها. ومن المعروف، أن القديس (مرقص) هو أحد أصحاب الأناجيل الأربعة، وقد رافق هذا القديس، القديس (بولس) في رحلته التبشيرية، وأمضى سنوات عدة في الشمال الإفريقي، قبل أن يستقر في الإسكندرية، ليؤسس فيها أول كنيسة مسيحية.

من ناحية أخرى، فإن دبلوماسية البندقية في عصر النهضة اتخذت منهجاً وسطياً بين ثورة الإصلاح الديني اللوثرية، والكاثوليكية المناهضة لها، مما أتاح للبندقية الفرصة لاحتكار التجارة بين الشرق والغرب، ولتنعم المدينة بفترة طويلة من السلام، واجتذاب عشاق الجمال والشعر والموسيقى والفنون الجميلة إليها. وفي الوقت نفسه فقد اشتهرت البندقية في تلك الأزمنة، بكثرة (الغانيات) فيها، وما زالت سجلاتها تحمل أسماء هؤلاء النسوة وعناوينهن وأجورهن.

أتأمل صور شوارعها وقنواتها في زمن شح المطر فيها، بعد أن عاشت عقوداً عديدة شهدت فيضانات ورياحاً عاتية، وارتفعت خلالها المياه إلى أكثر من متر ونصف المتر. وظلت البندقية مدينة تستشعر فيها معاني الفنون الجميلة في حياة الإنسان، وكيف ترتقي بحسه على دروب الإدراك والاستمتاع بآيات الجمال الإلهي في هذا الكون، وحينما نقول الفنون الجميلة، فهي جميلة في ذاتها كثمرة للمهارات العبقرية للإنسان الفنان، وهي جميلة أيضاً في وظائفها وتأثيراتها ومقاصدها، ولم تعد ترفاً إنسانياً، ولا امتيازاً لشريحة من المترفين، وإنما هي مكوّن رئيسي من مكونات الذات الإنسانية السوّية «أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم، كيف بنيناها، وزيّناها، وما لها من فروج».

بقيت لحظة موجعة في استحضار ذكريات البندقية، لحظة لا تغيب، حينما زرت أحد متاحف المدينة، ووقفت أمام لوحة فنية تضم السلطان سليم العثماني مع آخرين، وتسمَّرت أمام سيوف ودروع معروضة في أحد أجنحة المتحف، قيل إنها لمقاتلين مسلمين انتصرت عليهم البندقية في ألبانيا وصقلية وجزر أخرى في البحر المتوسط. وتأملت، حزيناً، قاعة فسيحة قي أحد قصور المدينة القديمة، وقيل لي من قبل المرشد السياحي إنها القاعة التي اجتمع فيها زعماء المدن الإيطالية يوماً، واتخذوا قرارات تتعلق بغزو جزر ومدن إسلامية تحت الحكم العثماني.

........

الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فإن كان لك فلا تبطر، وإن كان عليك، فاصبر ولا تضجر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4jwf3za6

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"