عادي

«وين الطروش»... مشاهد من زمن الطيبين

20:21 مساء
قراءة 5 دقائق
1

الشارقة: علاء الدين محمود

تنبع جماليات المؤلفات التي تتناول الماضي، من كونها قريبة من القلب، فهي تحتفظ بالكثير من الذكريات والقصص والحكايات التي تشكل خزانة حول تاريخ أية دولة، تحمل ثقافة الشعوب وخصوصيتها الاجتماعية، وترصد التفاصيل الصغيرة المتعلقة بعاداتها وتقاليدها، حيث يجد فيها القارئ متعة وهو يتجول بين عوالم مختلفة عامرة بالجمال.

كتاب «وين الطروش... بادية أبوظبي خلال الثلاثينيات إلى الستينيات من القرن العشرين»، الصادر عن كتاب جريدة الاتحاد، في عام 2016، من إعداد فاطمة النزوري، وتحرير الشاعرة شيخة محمد الجابري، وهو يروي تجربة صبحة محمد جابر الخييلي والتي تتناول تراث البدو من خلال تجربة حقيقية من عمق بادية أبوظبي عاشتها لحظة بلحظة، فاستطاعت تقديم تفاصيل ومعلومات دقيقة لم تطرح من قبل، في رحلة بين أرجاء أبوظبي متذكرة ذلك الزمان بحلاوته وطراوته وقساوته وتحدياته، مروراً بسردٍ وافٍ عن حياة البدو وتجارتهم، ومعتقداتهم، وسماتهم، وطرق معيشتهم، وكذلك صناعاتهم والتحديات التي واجهوها بمقدرة فائقة.

يتطرق الكتاب إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية، حيث نقلت الخييلي صورة أمينة عن وقائع النمط الحياتي الذي عاشته الأسر وسط ظروف واحدة متشابهة، ولم يغفل أثر المرأة في الحياة الاجتماعية والثقافية، والعادات والتقاليد والمعتقدات، وعلاقة أهل البادية بسكان جزيرة أبوظبي، مع ذكر بعض أبيات الشعر التي رافقت البدو في حلّهم وترحالهم، حيث تعرض الخييلي التجارب بعيداً عن ذكر الأسماء والشخصيات ليقينها بأن ما استدعته من الماضي هو تاريخ عام ويعد ملكاً لأفراد المجتمع كافة، وتستهل كتابها بتعريف كلمة الطروش وهم الرسل أي الرجال المسافرون على الجمال من منطقة إلى أخرى، سواء للتجارة أو البحث عن الرزق وهؤلاء يسمون «المناديب»، ويسمى الولد الذكر طارشاً؛ لأن الناس يشبّهونه بمن يأتي ومعه بشارة أو رسالة فيهنئ الرجل بولادة الولد فيقال له: «مبروك عليك الطارش».

الكتاب يقع في 132 صفحة من القطع المتوسط، ويحمل الكثير من العناوين والمواضيع المتنوعة التي تعكس ثراء البادية، منها: «ذاكرة المكان والترحال»، «في البادية لا نفقد شيئاً»، «هزع البوش وضروب الإبل»، «المروى... سر الحياة»، «الفريج... أسرة واحدة»، «منازل الشتاء»، «عادات البدو وتقاليدهم»، «السنع... أسلوب حياة»، «تعليم الصلاة في الصغر»، «العلاقات والواجبات الاجتماعية البدوية»، «زينة المرأة البدوية»، «المعتقدات البدوية»، «التفاؤل والتشاؤم عند البدو»، «الجن بين الواقع والخيال»، «فصاحة اللسان وحكمة العقل»، «مهن البدو»، «مهن النساء»، «صناعات البدو»، «صناعات النساء»، «طرق حفظ الأطعمة»، «الطبابة والعلاج»، «علاقة البدو بالشيوخ»، و«محطات تاريخية»، وغير ذلك من المواضيع المتنوعة والتي تغوص عميقاً في حياة البادية في الماضي القريب، واللافت في الكتاب احتشاده بالصور الملونة الزاهية والاستعانة بالأشعار، مما يشكل، بالفعل، مرجعية لا غنى عنها في معرفة تفاصيل ذلك الزمان الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية.

* خصوصية

ويشير الكتاب إلى أن خصوصية المجتمع البدوي ومكانته، فهو في شتى أحواله يعد مدرسة ينهل من علومها الراغبون في رسم طريق المستقبل، ذلك لما يتميز به هذا المجتمع من سمات خاصة في ما تعلق بمواجهة التحديات والصعاب، وتراث بادية أبوظبي، على وجه الخصوص، هو بمثابة تجربة فريدة قدمت للإنسانية نموذجاً متكاملاً لمعاني القيم الأصيلة والتآزر والتلاحم والجد والكفاح والإيمان، والاعتماد على النفس مع إنكار الذات، حيث قامت الحياة في البادية على الأسس المثالية للمجتمع المعافى الذي كان من أبرز غاياته الواقعية البسيطة وأهمها، تحقيق الاكتفاء في شتى مناحي الحياة ومطالبها المختلفة بأبسط المقومات والموارد المتاحة آنذاك، والتي كانت كافية لبث الشعور بالأمان والاكتفاء الحقيقي بما وفرته الطبيعة للبدوي من مقومات الحياة البسيطة، حيث لم يعرف الاستقرار، فقد كان متنقلاً وفق ما هو متاح من ماء وكلأ، في ظل إيمان حقيقي ورضا بما قسمه له الله تعالى، من نعم وما يسّر له من سبل العيش وسط صحراء علمته معنى الشجاعة والتحدي والقوة والإصرار والعزيمة، لمواجهة ما قد يطرأ من مخاطر سواء كانت طبيعية او بشرية، وقد تحدت إرادة البدوي الرياح والعواصف التي واجهته وأطاحت بالكثير من طموحاته في الاستقرار ومقاومة الطبيعة، واستطاع بحنكته وقوته وتعوده على الصحراء أن يصنع معجزة الحياة وسط بيئة كل ما فيها طارد، من حيث شح الموارد وقساوة الطقس والطبيعة، فنجح في أن يصنع لنفسه عيشة هادئة، كما استطاع أن يتأقلم مع من حوله من تحديات وسط المتغيرات الكثيرة في حياة البادية.

* ضروب الإبل

ويلفت الكتاب إلى أن البدو قد عبروا في حلّهم وترحالهم مساحات شاسعة من الصحراء، وتعايشوا مع ظروفها القاسية في كثير من الأحيان، وتشير الخييلي إلى أن تلك المساحات التي عاشوا فيها في «بادية أبوظبي»، وارتحلوا عنها وتنقلوا بينها آنذاك تشمل مناطق «الختم»، و«رماح»، و«بوسمرة»، و«بدع مسفر»، و«بدع سلمى»، و«أم البناديق»، و«النسورية»، و«اللحمة»، و«نقرة»، و«سويحان»، وغيرها من مواقع وأماكن، ينقلنا إليها الكتاب بسرد ووصف قوي في رحلة تعرف بخبايا الصحراء، ومن أشهر الطرق والدروب التي كانت تسلكها الإبل في البادية «هزع البوش»، التي كانت تقطع من قبل البدو حِلّاً وترحالاً وسط متغيرات مناخية صعبة، لكنهم استطاعوا أن يتغلبوا عليها بل والاستفادة منها، وتشير الكاتبة إلى القبائل التي جاورتهم في البادية في ذلك الزمان ومنها: «هل بالخيل»، و«المزاريع»، و«المناصير»، و«العوامر»، و«الحباب»، و«هل بوشامس»، و«بني كب»، وغيرهم من القبائل الأخرى التي نشا فيها رجال تتلمذوا على أيدي أكابر رجال القبائل البدوية فاكتسبوا منهم الشجاعة والمهابة والإقدام والكرم، كما تذكر أن أشهر «العراقيب»؛ أي التلال، التي عرفها الناس حينها هي «نقا الساد»، و«نقا اللحمة» و«نقا نقرة»، وهذا الأخير يضرب به المثل في العلو والارتفاع.

* الفريج

ويتحدث الكتاب عن «الفريج»، أو الحي في البيئة البدوية، حيث عاش أهل البادية في تلك التجمعات التي تسمى بالفرجان، والتي تضم عدداً قليلاً من المنازل، إذ يتعارف أهلها ويتواصلون ويجتمعون على الخير والحب، وتسود بينهم روح التعاون والقيم البدوية الأصيلة فهم بمثابة أسرة واحدة، ويعرّج الكتاب على ذكر عادات وتقاليد البدو التي كان للصحراء أثر كبير في تشكيلها وتكوينها، حيث سادت بينهم صفات كريمة اتسموا بها وأصبحت تشكل جزءاً أصيلاً من شخصياتهم وسلوكهم وطرق تعاملهم مع الآخر، فقد اتسم البدوي بالشهامة والرجولة والنخوة والكرم، ويتعرض الكتاب لعادة «السنع»؛ والتي تعني الأدب وأسلوب التعامل مع الآخرين، فهي بمثابة أسلوب حياة يجمّل قسوة الصحراء ويؤنسنها، وهنا يبرز الدور الكبير للمرأة البدوية التي تعد أجيالاً من الرجال والنساء، فهي تغرس فيهم القيم النبيلة والفاضلة التي تميز إنسان البادية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yckvk9p3

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"