عادي

«عطور فرنسية»... رحلة بعبق الذكريات

19:36 مساء
قراءة 5 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

بعض المشاهد لا تبارح الأذهان، بل تظل راسخة رغم مرور الأيام والسنوات؛ لأنها مرتبطة بذكريات محتشدة بالمواقف الإنسانية واللفتات المفعمة بالجمال، فالمرء خلال ترحاله في البلدان والعواصم، دائماً ما يجد أن هناك ما يشده إلى بعض الأماكن التي عاش فيها لحظات جميلة برفقة عدد من الأشخاص الذين يبقون في الذاكرة.

يدور الجزء الأول من رواية «عطور فرنسية... أحلامي فرنسية»، للكاتب عبيد محمد الجريشي، الصادرة في طبعتها الأولى عن دار الأدباء للنشر والتوزيع في الشارقة، حول رحلة تحمل الكثير من المواقف والمعارف والخبرات التي نالها الكاتب نتيجة التجول في العالم الغربي، وبصورة خاصة عاصمة النور باريس في فرنسا، ويجسد العمل في طياته مواقف تعرض لها الكاتب أثناء الغربة بسبب الدراسة، وهي محتشدة بالمواقف المتناقضة من مشاعر الحزن والأسى والفرح والسرور وغير ذلك من التقلبات التي تروى على لسان بطل الحكاية، ويقول المؤلف عن العمل: «إن الإبحار في هذا الجزء الأول من الرواية، سيكون شاهداً على مسيرة تحصيل المعرفة والتثقيف وتحقيق الأماني، حيث تصاحبها أحداث الغربة، وتأثيرها المتعاظم على طالب العلم، فالكتاب مزيج من الأحاسيس في غربة مستفحلة حاضرة تطال الروح والجسد».

الرواية تقع في 275 صفحة من القطع الكبير، وتشتمل على ألبوم من الصور لأماكن عالقة في شغاف الروح بالنسبة للكاتب، وبطل السرد يدعى «سند»، ويتولى صوت الراوي سرد الأحداث ما بين الإمارات وفرنسا، كما يحمل الكتاب مقدمة شارحة للعمل وفضاءاته وأحداثه، إذ يشير الكتاب إلى أن التجارب الإنسانية في الغربة بعيداً عن الموطن الأصلي تتعانق فيها نسائم الماضي بحرارة الحاضر وبرؤية المستقبل وتعبر سهول الأماني، فالسرد في العمل يحاول تصوير مجموعة من الأحاسيس والعلاقات الإنسانية سلبية كانت أو إيجابية، فما يهم في حكاية الكتاب هو ما يتعلمه المرء في الغربة، ففي هذه الرواية يحاول الكاتب أن يطلق عنان أفكاره، وأن يشكل مادة سردية محكمة باختيار العبارات الأنيقة المعاني بقدر المستطاع، ويأتي السرد أقرب إلى البوح تختلط فيه أسرار النّفس مع المعاناة البشريّة لها.

* أساليب وتقنيات

السرد في العمل يعتمد على عدد من التقنيات والأساليب، حيث يقوم المؤلف بتوظيف لغة مباشرة خالية من الرموز، يعمل من خلالها على خلق وصناعة الصور والمشاهد، كما نجد أن الوصف هو من التقنيات المهمة في الرواية خاصة في ما يتعلق بحياة بطل القصة ومشاعره، وكذلك يتنقل السرد بين فضاءات متعددة زمانية ومكانية، وهنالك احتفاء خاص بالمكان حيث تربى بطل الحكاية وترعرع، ويعمل الكاتب على تمرير العديد من المواقف الصعبة والثقيلة عبر عناصر التشويق والإثارة، ويوظف الكاتب الجمل والعبارات الجميلة والأنيقة، بطريقة قد تكون فائضة على السرد في بعض المواقع، غير أن الرواية في المجمل هي نتاج جهد كبير من قبل المؤلف، خاصة في ما يتعلق باستحضار المواقف وصناعة الأحداث والمنعطفات السردية، الأمر الذي أكسب الرواية أبعاداً جمالية وفكرية، حيث يظل المعنى حاضراً، ولعل اللافت في العمل هو صناعة الشخوص خاصة بطل العمل «سند»، فهو من نوعية الأشخاص الذين يعلقون في أذهان القراء.

* أحلام

العنوان الفرعي للرواية «أحلامي فرنسية»، هو خاص بهذا الجزء الأول من العمل، وهو يحيل القارئ إلى مشاعر وطموح ورغبات بطل القصة وحلمه في الذهاب إلى العاصمة الفرنسية، فعلى الرغم من اختلاف الواقع ما بين المكان الذي نشأ فيه وباريس، والمخاوف والهواجس التي تداهمه بين الحين والآخر، إلا أن الرغبة في السفر كبيرة وملحة، ويفرد المؤلف مساحة للحديث عن الأحلام والطموح، حيث يشير الكاتب إلى أنه ظل ومنذ الصغر محباً للمغامرة والمعارف الإنسانية المختلفة.

* صراع

طبيعة السرد في هذه الرواية تبدو مختلفة بعض الشيء، فهي تتحدث عن قصة لمواطن إماراتي، تربى في بيئة معينة، وتزوج صغيراً، وعمل موظفاً، وهو محكوم بالعادات والتقاليد، ويمتلك في ذات الوقت الطموح الكبير، وينشأ الصراع على المستوى الذاتي من خلال فكرة السفر من البيئة التي تربى فيها بكل حمولاتها الاجتماعية والثقافية، والسفر نحو ضفاف جديدة، إلى بلاد تختلف في كل شيء عن بلاده من حيث القيم والعادات والتقاليد، ليصبح الإنسان العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان، ويركز السرد في الجزء الأول من العمل على تلك المشاعر التي تنتاب الشباب العرب عن الآخر قبيل رحلة السفر، حيث ينشغل العقل بالتفكير في حياة جديدة يقبل عليها ولا يعرف شيئاً عنها.

وفي هذا الجزء الأول من الرواية، ينفتح الكتاب على حكاية بطلها «سند»، قبيل السفر إلى باريس، ذلك الشاب الذي تربى على قيم فاضلة ونبيلة، وعاش وتعلم في بيئة يلفها الهدوء ولا تعرف الضجيج، ويستمر الكتاب في وصف أخلاق وصفات وشمائل سند، والواقع الذي يعيش فيه، فقد كان شاباً لطيفاً يحترم من هو أكبر سناً منه، ويقدرهم ويوقرهم، فقد كان سند ينهل من تلك التربية الدينية وكان ملتزماً بها، الأمر الذي أمده بالقوة والصلابة اللازمة لمواجهة أعباء الحياة وتقلباتها، وكذلك المقدرة على كبح الغضب والانفعالات الشخصية، وكان سند يعتمد في كل أموره على الله تعالى، فهو ابن مجتمع متماسك الأركان، يلعب فيه الوالدان دورهما في حياة الأبناء.

ويرسم الكتاب صورة نابضة بالحياة عن سند وأسرته وأهل بيته، فقد تزوّج صغيراً وأنجب الأولاد في سن باكرة، وهذا يشعره بمدى القرب بينه وبين أولاده، فهم لا يخافونه لكنهم يخشون براكين ثورته، فقد كان شديد الغضب، وكان أولاده ينظرون إليه بمنزلة الأخ الكبير أو بمنزلة المدرّس أو المعلّم، كما كانت علاقته بوالديه وإخوانه «جزر محميّة طبيعيّة من الذكريات تلامس شواطئها أمواج الحنين»، فقد كان يكنّ لوالديه محبة وتقديراً كبيراً، كما كان سند يكافح في الحياة من أجل الجري خلف لقمة العيش الشريف، وتوفير قدر من الحياة الكريمة لأهله.

ويحشد المؤلف الرواية بفيوض من الذكريات الحميمة، ويكثر من ذكر الأماكن، والحديث عن الأحاسيس الإنسانية ومشاعر الشوق والحنين، ولعل تلك الصورة التي رسمها المؤلف عن بطل الحكاية سند والظروف الاجتماعية والبيئية والثقافية التي كوّنت شخصيته، هي بمثابة مقدمة مهمة وضرورية من أجل أن يتهيأ القارئ للجزء الثاني من الرواية، عندما يسافر سند إلى باريس من أجل التعليم، فيبدأ هناك حياة جديدة ملأى بالصراعات والمنعطفات والمواقف التي قد تتناقض مع شخصيته وطريقة تربيته وتنشئته، فهو على موعد مع واقع مختلف، وقد نجح الكاتب كثيراً في هذا الجزء من الرواية في جعل القارئ يترقب بكل شوق صدور الجزء الثاني منها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yaanj7wb

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"