تحقيق: جيهان شعيب
الكلمة مسؤولية، والقول الطيب يواجه بمثله، ويعلو بقدر قائله ومكانته، وعلى العكس يأتي القول المستفزّ هابطاً بصاحبه، وينزله إلى مدارك السوء، من حيث انتقاده مجتمعياً، وعدم احترامه، إلا أن بعض أصحاب هذا القول من مشاهير مواقع التواصل، والمؤثرين والناشطين فيها، لا يعيرون اهتماماً بفكرة نيل الاحترام، أو حصد الإعجاب بمضامين موضوعية راقية على حساباتهم، بقدر ما يهدفون إلى نشر محتوى مستفز، يتضمن في أغلبه إساءات وتطاولاً وفظاظة، وانتقاداً لقضايا وظواهر مختلفة. يتبلور هدفهم بذلك في إثارة غضب المجتمع الذي يسارع بعض أفراده بالرد الحاد والتعليق العصبي الذي ربما – ونسبياً - قد يتضمن بعض الشدة، على هذا المحتوى أو ذاك، وهنا يتحقق الهدف الخبيث لأصحاب هذه المنشورات المسيئة، حيث يسارعون بجمع التعليقات الحادة، والمتنمّرة التي نالتهم على منشوراتهم البذيئة، ومن ثم يتوجهون إلى المحاكم لرفع دعاوى، بالسب والقذف في حقهم، ويحصدون غرامات حين الحكم لمصلحتهم.
لجوء عدد من مشاهير مواقع التواصل، للتكسّب من وراء الردود المجتمعية الحادة، على منشوراتهم المستفزة على هذه المواقع، أضحى ديدنهم، في تصيّد من يحتدون في الرد عليهم، لغيرتهم على مجتمعهم، وأبناء جلدتهم، فتكون المساءلة القانونية مصيرهم.. حول ذلك يدور التحقيق:
استهلالاً وتوضيحاً للموقف القانوني من هذه القضية، قال المستشار سعيد الطاهر: قانون مكافحة الشائعات والجرائم الإلكترونية، والمرسوم بقانون اتحادي رقم 34 لسنة 2021 بمكافحة الشائعات والجرائم الإلكترونية في المادة 43، نص على أنه«يعاقب بالحبس والغرامة التي لا تقل عن 250 ألف درهم، ولا تزيد على 500 ألف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من سبّ الغير أو أسند إليه واقعة من شأنها أن تجعله محلاً للعقاب، أو الازدراء من الآخرين، باستخدام شبكة معلوماتية، أو إحدى وسائل تقنية المعلومات، أو نظام معلوماتي».
فالقانون أعطى الحق للمتضرر باللجوء إلى القضاء، واستخدام حقه القانوني، فيما قد يكون الأمر برمته «فخاً»، أراد به صاحب المحتوى المتطاول على مواقع التواصل، التربّح، والتكسّب باستخدام حقه القانوني في مثل هذه الحالات، بنشر محتوى مستفزّ للآخرين، ليردوا عليه، بما يتبع ذلك، ومن هنا ننصح روّاد مواقع التواصل، بعدم الانجرار خلف تلك الاستفزازات، تجنباً للوقوع في «الفخّ». وبشكل عام فليس كل ما لا يعجب الفرد في الفضاء الإلكتروني، يتوجب الرد عليه، حتى لا يعرّض نفسه للمساءلة القانونية.
توعية الأبناء
وتحدث محمد راشد الحمودي، رئيس مجلس أولياء أمور الطلبة والطالبات، فرع مدينة دبا الحصن عن دور التربويين في توعية الأبناء، بالابتعاد تماماً عن العصبية في الرد على أي منشور مستفزّ على مواقع التواصل قائلاً: لا ننكر أن لمواقع التواصل، إيجابيات عدة، ولكن في الوقت نفسه لها سلبيات ومخاطر جمة، قد توقع بالمتعاملين تحت طائلة القانون، لاسيما في ذلك ما يتعلق بالتغريدات الاستفزازية التي تصدر من بعض مشاهيرها، وتكون مصيدة للكبار والصغار.
وما يهمنا الأبناء، من الطلاب والطالبات الذين يشاركون في الردّ على تلك التغريدات الاستفزازية، بعبارات مسيئة قد تتضمن سباً، وقذفاً، وتشهيراً، وخدش السمعة والشرف، والمكانة الاجتماعية، ما يوقع هؤلاء الأبناء في مصيدة الجرائم الإلكترونية، ويجرّهم إلى المحاكم، بحسب القانون الاتحادي رقم 34 لسنة 2021.
لذلك علينا نحن التربويين، وأولياء الأمور، أن نضع أيدينا معاً، لتوعية الأبناء بأخذ الحيطة، والانتباه، والحذر من عواقب الوقوع في مصيدة الردود العصبية، على التغريدات الاستفزازية، المتطاولة، حتى لا يتعرضوا للمساءلة القانونية، فضلاً عن أن استفزاز الأبناء بعضهم لبعض، عبر تلك المواقع، يتنافى مع الآداب العامة، والسلوكيات الصحيحة. وارتأينا في المجلس التابع لهيئة الشارقة للتعليم الخاص، تنظيم ورش توعوية للطلاب، خلال البرامج الصيفية للعام الجاري عن خطورة هذه الظاهرة، ونسأل الله أن يهدي الأبناء لما فيه الخير والصلاح.
ضحايا السفهاء
وللإعلام هنا دور في فضح جوانب هذه القضية، قبل أن تستفحل، فبحسب الإعلامي خالد الزرعوني، فإنه لا يخفى أنه في السنوات الماضية ومع ازدياد سكان عالم مواقع التواصل، ظهر الكثير من المظاهر السلبية، وأصبح هذا العالم الافتراضي مثل عالمنا الواقعي، لا يخلو من السلبيات والجرائم، وكذلك الاحتيال، ونقصد به الخبث، والدناءة، والحيلة، التي تستهدف فئة قليلة من عموم المجتمع، وخاصة من الغيورين على القيم والعادات.
والحقيقة أننا لاحظنا في الآونة الاخيرة كثرة الدعاوى القضائية على أشخاص كثر، ومنهم عدد كبير بالكاد لا يعرفون طريق المحكمة، ولكن جريمتهم أنهم راحوا ضحايا بعض السفهاء من مستخدمي مواقع التواصل، الذين يضعون منشورات مستفزة، وآراء جدلية على صفحاتهم، وينتظرون الردود التي تحمل إساءة مباشرة لهم، لرفع دعاوى قانونية على أصحابها، وكسب مبالغ مالية كبيرة، حيث إنهم وبالاتفاق مع محامين، يتربّحون من التعويضات المالية التي تصدرها لهم المحاكم، عقب الحكم لمصلحتهم، بعد رفعهم الدعاوى بالضرر النفسي الذي لحقهم، جراء الإساءة التي تعرضوا لها.
وهنا نوجه رسالة الى المجتمع بضرورة أن يكون الشخص واعياً وجاداً، وينتقي الردود والتعليقات المناسبة، ويبتعد عن متابعة أصحاب الحسابات الهابطة، تجنباً لردة الفعل الغاضبة، ويستغل وقته على مواقع التواصل، بمتابعة المثقفين، والناضجين أدبياً وفكرياً، لأن العالم الافتراضي فيه الكثير من الفوائد والإيجابيات، وفي الوقت نفسه هناك جانب مظلم فيه، وعلى وسائل الإعلام المرئية، والمقروءة والجهات الأمنية، تكثيف برامجها، وحملاتها التوعوية، ونشر منشورات تحذيرية من هذه الظاهرة، مع بيان مخاطرها من جميع الجوانب، حتى لا يكون هناك ضحايا لمثل هذه المؤامرات الدنيئة.
رابط تعاوني
وفصل عبد النور سامي، خبير الأمن السيبراني، واقع هذه الظاهرة قائلاً: المحتوى المثير للجدل أضحى طريقاً سهلاً للوصول إلى الشهرة، وزيادة المتابعات والإعجاب، ومن ثم بناء الدخل، والحصول على رعايات وإعلانات، وهذا المحتوى إحصائياً وعلمياً يزيد في الدول التي تغلب عليها كثرة التجاوزات الشخصية، بمعنى آخر ضعف دقة الأنظمة، في تطبيق لوائحها وتشريعاتها، وعدم وجود جهة رقابة فعالة في المجال الإعلامي عامة، ومواقع التواصل خاصة.
والحقيقة أنه منذ سنوات بدأت مجموعة من «المؤثرين» بتشكيل رابط تعاوني بينهم، في نوعية المحتوى المطروح، وسياسة الإعلانات ذات الأرقام الفلكية، الذين أشير إليهم لاحقاً بتهم غسل الأموال، فيما تعمل هذه الرابطة على التعاون في أفكار صناعة المحتوى، وهنالك آخرون يقلدون هذه المجموعات، وتكاد منهجيتهم تتطابق، مع اختلاف أسمائهم وأشكالهم فقط.
وللأسف، المحتوى الذي يخدش الحياء العام، حتى وإن كان بتصرف «عفوي»، يجد طريقاً أوسع للشهرة لسببين، أولهما الدافع المنحرف لدى الأفراد، الذي يعززه العالم الرقمي، حيث إنه في العالم الرقمي لا أحد يعرف عن حساباتنا المستعارة شيئاً، فنتصرف بدافع رغباتنا. وثانيهما يتبلور في المجتمع المحافظ الذي يقوم بانتقاد هذه التصرفات، وشنّ هجمات معادية لها، وبحسب مفهوم الدعاية، لا توجد دعاية سلبية، حيث الحديث عنهم ولو بالانتقاد، يسهم في إشهارهم.
بالتعاون مع محامين
وواصل: وهذا المحتوى صنع هؤلاء المشاهير، وحقق لهم مكانة مجتمعية، ورفاه مالي، ولكن بالمقابل حقق لهم دخلاً من جانب آخر يتمثل في القضايا التي رفعوها على أصحاب الانتقادات العنيفة على محتواهم، حيث يتعاون هؤلاء المشاهير مع محامين، وكثير منهم يصرّحون بذلك في الوصف التعريفي «البايو»، ومنهم من يتفق مع المحامي من هؤلاء على منحه «نسبة» من التعويض الذي سيحكم له به، ومنهم من يتفق على مكافأة ثابتة، وبالطبع العاملون بناء على «النسبة» يكثفون جهودهم، في البحث داخل التعليقات عن أي حرف يمكن أن يصنع لهم دخلاً.
وهناك بعض مرتادي مواقع التواصل، الذين يعلّقون على المنشورات المستفزة، بصورة سلمية احترافية أخلاقية، ولكن لا يسلم هؤلاء من براثن الدعاوي غير المنصفة من بعض مشاهير مواقع التواصل، الذين يؤمنون بحرية التعبير إلى حدّ خدش الحياء العام، ولكن عندما يعبر أحدهم عن مساوئ أفعالهم، فلا حق له، ويسمون ذلك تعدي على حرياتهم.
تقديم شكوى
وعن كيفية مواجهة هذه الظاهرة المجتمعية السلبية، أضاف: ومادام النقد ليس الطريقة الفعالة، حيث يعرض صاحبه للمساءلة القانونية، فالحل هو الإبلاغ في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث بتوافد البلاغات، سيضعف انتشار الفيديو، أو المنشور المسيء، في حين عند إرساله للأصدقاء في الخاص بمسمى «انظروا إلى هذا المنكر» أو التعليق عليه ولو انتقاداً، فذلك يعزز قوة الحساب وانتشاره، لذا فالأفضل هو التبليغ، وحظر الحساب.
ولا شك في أنه إذا قام الجميع بهذا الأمر، ففي غضون عام أو عامين، ستختفي هذه الحسابات من مواقع التواصل؛ لذا فلنقضِ على هذا الباطل بالسكوت، والإبلاغ عنه، ومن الممكن تقديم شكوى للجهة الإعلامية في دولة الشخص صاحب المنشورات المستفزة، وعند زيادة الشكاوى، ستضطر الجهة إلى اتخاذ موقف ضده، أو أخذ الشكاوى في الحسبان، في تحديث وتحسين السياسات الإعلامية، وسياسات مواقع التواصل.
الأمر الآخر الذي أريد أن أنبه إليه، أن هذه المحتويات أحياناً قد تصدر من عصابات ابتزاز، بالاتفاق مع بعض الأشخاص، وهم مؤثرون مستأجرون، ليس لهم وجه إعلاني، أو وجاهة مجتمعية، وينتشرون بشكل أكبرعبر منصة الأضواء في «سناب شات»، ومجموعات «التليغرام»، وقد بدأوا بإنشاء حسابات في «إنستغرام» حالياً. وهؤلاء لن يرفعوا قضية، ولكن التواصل معهم بأي شكل من الأشكال سواء بالتعليقات، أو التواصل في الخاص، أو الإضافة، سيضع الشخص نصب أعين هذه العصابات المنظمة، وهي تضم مجموعة من المحتالين، والمبتزين، وفتية وفتيات متعاونين لخداع الآخرين. وأحياناً قد تضم هذه العصابات مخترقين «هكر»، وفي الأحوال كافة هذه المحتويات السلبية، مفسدة في الدين والدنيا، بغض النظر عمن ورائها.
ظاهرة دخيلة
قالت د. ليلى البلوشي، مستشارة ومدربة تنمية بشرية وإدارية: التكسب السريع عن طريق إثارة الآخرين واستفزازهم، ظاهرة دخيلة على مجتمعاتنا، تعد نتاج سلوك التفاهة، التي غزت عوالم بعضهم، مع مخالفة صريحة للقيم الدينية، والمجتمعية، التي طالما تؤكد أهمية التلاحم بين الأفراد، والابتعاد عن الفتنة.
ومع تأكيد القرآن الكريم، في أكثر من موقع، خطورة خلق الفتن بين الناس، فبعض الأفراد يعملون على استفزاز الآخرين، ودفعهم للسب والقذف، ثم استخدام ذلك ضدهم، برفع قضايا جنائية لكسب الأموال، وفي هذا استحداث الفتنة، وإشعال نار شيطانية، وإيذاء الآخرين.
لذا يجب على الجميع التحلي بمبادئ الدين، لاسيما التسامح، والترفع عن الوقوع في مصيدة الاستفزاز، وتذكر قوله تعالى {وإذا خَاطَبَهُم الجاهِلونَ قالوا سَلاما}، لأن الاستسلام لهذه الاستفزازات خطأ كبير، يؤدي إلى أخطاء أكبر، وكوارث أسوأ.