عادي
الواقع دون مساحيق بوجوهه وأقنعته وتشوهاته

يوميـات شـاب أفغانـي قـادم من جحيم الحـرب

23:49 مساء
قراءة دقيقتين
إميلي دوتوركهايم
القاهرة: «الخليج»
قالت الروائية سفيتلانا أليكسيفيتش، أثناء تسلمها جائزة نوبل أمام الأكاديمية السويدية: «كم من الروايات تختفي دون أثر، لأننا لم نعرف كيف نستمع إلى العالم؟» هناك شبه كبير بين كتابة سفيتلانا أليكسيفيتش والروائية إميلي دوتوركهايم، يبرز في رواية الحقيقة حول العالم، سواء بلغة توثيقية أو أدبية، لأن المهم هو أن نكتب صوت العالم، كيفما كان القالب الأدبي، فيجب أن يكون المحتوى أدباً مقلقاً ومزعجاً، يأبى الاستكانة وإراحة الضمير، يتجاوز الصمت والمسكوت عنه، لكشف الحقيقة التي قد تصدم القارئ، كي يعيد النظر إلى العالم بعين مغايرة.
وفـــــي هذه الـــــرواية «الأمير صاحب الكأس الصغيرة» (ترجمة سعيد بوكرامي)، تقدم «إميلي دوتوركهايم» الواقع في درجة الصفر دون مساحيق، لتظهر لنا وجوهه وأقنعته كلها، تشوهات الحرب وحياة التشرد، أوضاع اللاجئين في فرنسا، الرحلة الشاقة والقاتلة التي يخوضونها بأجسادهم وأرواحهم، لكي يبقوا على قيد الحياة.
وتعرض الرواية حكاية «رزا» الأمير صاحب الكأس الصغيرة، الهارب من ويلات الحرب وأهوال الهجرة، ومن بلاد العنف إلى منافٍ لا تعد ولا تحصى، منذ بداية أوديسته وهو يفقد أيامه السعيدة التي تنثال منه كأوراق الخريف، يفقد الناس الذين أحبهم والأشياء الثمينة، يفقد الأسرة والوطن، ويبقى محلّقاً بين غابات وجبال وبحار وسجون.
يحاول أن يحط كطائر فوق غصن، لكنه في أغلب الأحيان يلاقي الحواجز، وفي النهاية لم يستطع الاستقرار إلا بمساعدة القلوب الرحيمة التي استضافته في بيتها، واعتنت به، إلى أن أصبح قادراً على العيش بحرية.
حكاية مؤلمة عن حروب مجنونة ومنافٍ موصدة، لا تسمح للأحياء بعبور حدودها والاستقرار فيها، منافٍ أشد قسوة من الحرب نفسها، فإميلي دوتوركهايم تكتب هذه الحكاية بلغة شاعرية، لا تشبه إلا نفسها، تتماهى مع طريقة سرد اليوميات، حيث يغلب الوصف والجمل القصيرة، لكن الكاتبة تبحث في كتابتها عن تماثل حقيقي مع الواقع بصدق وحب تارة، وبقلق وحزن تارة أخرى، هدفها توثيق حالة إنسانية،.
يثير عمل الكاتبة الفرنسية أسئلة كثيرة، ولا يمكن اختزال عملها إلى مجرد يوميات، بل إن كتابتها ترقى إلى مرتبة الشهادة في الأدب، وتستخدم صوت ضميرها وأصوات من يشاركونها حياتها، هذه الأصوات هي وحدها التي تملك القدرة على إعطاء الحقيقة عن العالم، لهذا تتخذ من شخصية «رزا» ذريعة للتنديد بالحرب ومشكلات المهاجرين اللاجئين، وصعوبة اندماجهم في مجتمع يرفضهم تقريباً.
ويعد بطل الرواية «رزا» الشاب الأفغاني القادم من جحيم الحرب والمار بأهوال العبور من منفى إلى منفى بطريقة سرية ومؤلمة وفجائعية، هذا الصوت المجروح هو ممثل لأصوات اللاجئين، الذين كانوا وما زالوا ضحايا لحرب غريبة عنهم، شوّهت ذاكرتهم ودمرت سبل العيش الكريم، برفقة أسرهم.
هذا أدب شجاع يستنكر أشياء كثيرة دمّرت القيم الإنسانية، وفي المقابل توفر لنا إميلي قيمة أدبية وجمالية، من خلال التلاعب بالسرد ووجهات النظر غير العادية، لإنسان نكتشفه تدريجياً برفقة الكاتبة، ونعيد اكتشافه من خلال حياته اليومية القاسية، لأن الطابع التدويني لليوميات يمنحنا هذا الوعي، كما لو أننا نعيش، نحن أنفسنا، تفاصيل إقامة رزا وتحولاته يوماً بعد يوم، وحدثاً بعد حدث.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/czvajxs4

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"