عادي

«ذاكرة من أحزان».. نص يحلق بجناحيّ السرد والشعر

19:35 مساء
قراءة 5 دقائق
محمد خليفة

الشارقة: أشرف إبراهيم
عندما تكون الكتابة منبعها الإلهام، فهي تمتلك دلالاتها الخاصة، وإذا كانت الصورة المعبرة عن جوهر الكلام مبتكرة، فهي تعطي للخيال مساحة واسعة أن يتمدد في الوجدان، وفي ظل وجود كتابات جمالية لها قيمتها في واقعنا الثقافي المعاصر، فإنه من الضروري أن تظل هذه الكتابة راسخة في الوجدان مهما مر عليها الزمن، وهذا ما يتجلى في كتاب «ذاكرة من أحزان» للشاعر والقاص محمد خليفة عبد الله سالم المَرَر، المنشور في مصر بمطابع الأهرام.

تفيض صفحات هذا الكتاب كلها بالحس الإنساني، وتستثير الحساسية الجمالية للمتلقي من خلال ما ينطوي عليه من كلمات مؤثرة عن الحب، فضلاً عن الكفاءة اللغوية التي يتمتع بها الكاتب خصوصاً أنه قدم رؤية لها دلالات في القصص القصيرة التي تغوص في استحضار ذاكرة الحب والألم، وتجسّد في الوقت نفسه صوراً مرسومة من عبق الخيال من خلال القصائد الشعرية التي تكمل الوجه الآخر لهذا الكتاب، فالقارئ يعيش لحظات دافقة مع صور وأخيلة، وتجسيد حقيقي لواقع إنساني، يطرح إشكاليات ذات مضامين متغيرة تتسق في أبنيتها ودلالاتها مع وسائط بصرية مصحوبة باللغة العذبة، ما يدل على أن الشعر والقصص هما وجهان لمعرفة واحدة، رسخها الكاتب بجمال وإبداع من خلال ما طرحه من نماذج شديدة الثراء والفاعلية في هذا الكتاب، استجابة لنزعاته الجمالية وهو يصور أدق المشاعر الإنسانية بصيغ يألفها القلب وتخترق جدار الزمن؛ حيث يستمتع بها المتلقي وتدفع النقاد إلى استخلاص تراكيبها وإشاراتها الفنية التواصلية، وعناصرها التي تختزل المواقف الإنسانية.

يقع الكتاب في 120 صفحة من القطع المتوسط، ويبدأ بمقدمة ضافية للدكتور عبد العزيز شرف - الذي كان يشغل قبل وفاته رئيس القسم الأدبي بصحيفة الأهرام المصرية - التي يقول في جزء منها «في هذا الكتاب الذي أشرف بتقديمه إلى القرّاء، نلتقي بعالم رحب من الفكر والحب للكاتب محمد خليفة، نراه في مدينته الفاضلة؛ حيث يندحر الظلام أمام النور، فالحب.. كما يقول جبران خليل جبران لا يعطى إلا لذاته، ولا يأخذ إلا من ذاته.. والحب لا يمُلك ولا يملكه أحد فهو مكتف بذاته»، ويكمل شرف: في هذه المدينة الفاضلة كما سيرى القارئ كلمات تتغنى بالحب كما تتغنى بالعطاء والإنسانية المرهفة، فالأديب محمد خليفة يصور في هذا الكتاب أفراح البشر وأتراحهم معاً، وهكذا الحياة في نظره مصدر الإبداع الجمالي ينقذ بدوره - كما يقول جبران - وجدان البشرية.

ولكي تتضح لنا معالم هذا الكتاب كما صوره الكاتب محمد خليفة فلا بد من تخير بعض النماذج القصصية والشعرية التي تضمنها الكتاب، ومن ثم النظر بعمق في الإشارات التي وظف من خلالها عناصره الإبداعية بتراكيبها المعبرة والقابلة للتحليل، نظراً لغزارة التقنيات الأسلوبية التي تحدد أنساق الأفكار وتراتبها، بما يبرز صوره المرئية للحب ودواخل الإنسان، وبما اقتضته طرقه الأسلوبية وهو يعبر بالشعر أو القص؛ بحيث يطير في هذا الكتاب بجناحي الشعر والسرد القصصي، ومن ضمن النماذج السردية، القصة الأولى التي عند قراءتها تحيلنا إلى أصوات مسموعة؛ نظراً لحركية الحكاية الظاهرة فيها بشكل بصري.

* أزمنة

«قصر الأشباح» من الوهلة الأولى لتلك القصة، يتسلل محمد خليفة إلى أزمنة حاضرة وأزمنة انتهت؛ إذ يتخذ من رمزية القصر المهجور، دلالات عديدة لتجسيد معطيات حسية تنبض من خلال أصوات دعتهم الظروف للبقاء بين أطلاله سواء كانوا رجالاً ونساء، أو من كبار السن، وأيضاً يستدعي صوت الطبيعة بمهارة القاص الذي يصور حركة ضجيج غير مألوفة، يتبعها السكون الذي ترتطم حدته بهؤلاء البشر، فهو يستحضر زمناً ولى، ويستفيض في تصوير واقع مؤلم، بعد رحيل أصحاب القصر، ما يضعنا على عتبات نتلمس من خلالها أسلوبه البديع في وصف العواطف والانفعالات في إطار حركة الزمن؛ إذ إنه بهذه القصة التي تعد مفتتحاً وتمهيداً لما يدور في الكتاب، يهيئ القارئ لمشاهد أخرى تبرز وحدة النصوص ورسالتها المنبثقة من رؤيته الخاصة في تكوين نماذجه الإنسانية بوعي واتساق.

* الرحلة

في نموذج آخر قدم في قصة «الرحلة باتجاه عينيك» فكرة ذات مضمون إبداعي؛ إذ يخاطب بكلمات الحب، المرأة بأسلوب متخيل جزل في معناه؛ حيث يقول في جزء من القصة «يبدأ التاريخ الجديد في لحظة الهجرة إليك.. يبدأ فتحة الروح في لحظة الإيمان بك.. يبدأ رحلة الحياة الجديدة في لحظة الانخراط في أزمنتك الظاهرة.. أنت وطن رآه في لحظة صفاء الروح وطهارة القلب ونبض العقل»

في هذه المقطوعة المبثوثة من روح الحنين، دلالات تبرز مشاهد لها وقع في نفس الكاتب، تغلف أسلوبه بما يشكل إطار قصصه في حضن اللغة التي يوظفها بجماليات معهودة، مسكونة بالتوتر، لكن هذه اللغة تمتلك إيقاعها الخاص بما يبرز تجربة الكاتب الإنسانية المتراكمة، فهو يرسخ لمفهوم الحب برهافة وشجن عبر خلق صور متعددة للتخيل اللامرئي الذي فتن به، والذي يحيله بلغته القوية إلى جمل ثرية مفتوحة على التأويل.

يعالج الكاتب في بقية القصص نظرته للحياة وللحب ولقضايا الإنسان وشجونه، بأسلوب يستبطن الأشياء ويحيلها إلى التأويل، خصوصاً أن طابع القصص يحمل أسلوبه كشاعر، وهو يصور أشواق الإنسان في مسارات الحياة، ونسائم الحب في مواسم هبوبها بجمال ودهشة، فحملت عناوين القصص الأخرى أسماء: في بيتنا امرأة، اغتصاب أفراح الروح، مفارقة العقل والجنون، إنسان تأجل كثيراً، البحر الذي أكل المدينة، تسعون يوماً، جسد من جراح، بطاقة إلى أمي، امرأة كالماء، حبيبتي، أنت، سلطة الجسد، للحب فقط.

* طاقة تخييلية

في الجزء الأخير من الكتاب طرح الكاتب عدداً من القصائد الشعرية التي تبرز طاقة محمد خليفة التخيلية، والتي تبرز أيضاً خلاصة تجربته في قصيدة النثر التي تصور طموحاته وتعبر عن صوره التي تطرحه نموذجاً مغامراً في إضفاء لمسة جمالية على واقع الحياة؛ وذلك بما تشكل لديه من خبرة لغوية وتجربة نابضة بالجمال، فقد حملت بعض القصائد عناوين مثل: امرأة أروجوانية، في خيمة الأنثى، نبضي أنت، مساء، لوحات، كل عام وأنتم في هذا القلب، فهو يخاطب في هذه القصائد المكان، ويغني للموج، ويحاور امرأة قريبة، وهو أيضاً يفرح باللقاء في متوالياته التصويرية؛ إذ يختبئ خلف جدار الذات ليزين حروفه بالدموع والمأساة إن لزم الأمر، فمن خلال هذه التجربة الشعرية التي يوظف من خلالها جملة انفعالاته يحاول أن يصور منطق الحب بأسبابه الواهية والمقنعة، لكنه يتحكم ببراعة في بنية نصوصه، ويشبعها جمالياً؛ حيث يقول في قصيدة «نبضي أنت»:

أنت صورة المطر

صورة الربيع في روحه

صورة النهر في نبضه

أنت يا مسحة الأمومة في الأشياء

يا سحراً تجاوز الذات واخترق الروح

لقد عبر الشاعر محمد خليفة في القصائد الواردة في الكتاب عن النزعات العاطفية في أجمل صورها التي تشكل ارتباطه بالحب وجوهره في حياة الإنسان، وقد حلق بالكلمات في رحاب الجمال الروحي، لينتهي هذا الكتاب بقفزات شعرية محلقة، فقد زاوج محمد خليفة بين القصة والشعر وعبر بهما عن مشاعره وأحاسيسه الصادقة من خلال بوح إنساني رقيق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/32fmmpmz

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"