عادي
يعيد فتح قضية «وجود» طواها النسيان

«قتلة زهرة القمر».. قراءة الحاضر من نافذة التاريخ

22:33 مساء
قراءة 6 دقائق
صور قديمة لبعض من رجال أوسيدح ومن لقب نفسه الملك
المخرج يتوسط الأبطال الثلاثة
فريق عمل الفيلم بالملابس التقليدية

مارلين سلوم

لا يراوغ سكورسيزي، يضع الهدف أمام عينيه ويذهب إليه مباشرة آخذاً معه الجمهور ليضعه أمام حقائق حصلت في الماضي، وكأنه يعيد فتح ملفات من التاريخ أو يعيد فتح ملف قضية لم يتم التحقيق فيها جيداً سابقاً، ولم يتم الكشف عن المتهم الأول والحقيقي فيها، فطواها الزمن ونسيها الناس، لذلك يقرر هذا المخرج العبقري تنشيط الذاكرة لنقرأ معه الحاضر والمستقبل بعيون الماضي وتجاربه وأحداثه التي تتكرر، وتكشف للأجيال الجديدة والشابة ماذا حصل وكيف ولماذا؟ واثق من نفسه ومن معلوماته وأهدافه، جريء في اختياراته للقضايا التي يتناولها في أفلامه، وعلى نفس هذا النهج والخط يلتقي مع ليوناردو دي كابريو فيشكلان ثنائياً ناجحاً جداً في سبعة أفلام، فكيف تكون الحال حين تضاف إلى هذه الثنائية ماسة إبداع ثالثة اسمها روبرت دي نيرو؟ لقاء يجعل الفيلم الطويل الجديد «كيلرز أو ذا فلاور مون» أو «قتلة زهرة القمر»، ملحمة لا يمكن نسيانها ولا ننصح بتجاهلها، تأسرك نحو ثلاث ساعات ونصف الساعة دون أن تحاول مقاومتها، بل تستسلم لمتعة مشاهدتها وتتمنى لو هناك المزيد

حين تقول مارتن سكورسيزي فأنت تقول تاريخاً من الإبداع، 173 جائزة عالمية من ضمنها أوسكار في العام 2007، و282 ترشيحاً لجوائز، والأهم أن اسمه مقرون بالجودة العالية، التميز في اختيار المضمون قبل الصورة، القصة المؤثرة والرسالة الهادفة والقوية، التميز أيضاً في الإخراج والدقة المتناهية في التفاصيل الصغيرة والكبيرة على حد سواء، كذلك عناية شديدة في اختيار الممثلين، وأخيراً البصمة التي لا تشبه غيرها ولا تقلد من سبقها بل تجد دائماً طريقاً خاصاً تشقه ليلحق بها الآخرون.. وهذه المرة تعتبر ملحمة «قتلة زهرة القمر» تاريخية، تضيء على سيرة السكان الأصليين للولايات المتحدة الأمريكية، شعب «الأوسيدج» أي الهنود الحمر الذين لقبوا بشعب الحظ المختار، إذ تفجر في أرضهم في أوكلاهوما النفط، فأصبحوا أغنى سكان العالم من حيث نصيب الفرد، قصة تمتد ما بين 1913 و1947، حقيقية تستند إلى كتاب بنفس الاسم لديفيد جران، كتب له السيناريو إريك روث ومارتن سكورسيزي الذي جعله فيلماً لا تقل ميزانيته عن 200 مليون دولار، وشارك في إنتاجه مع أكثر من منتج من بينهم ليوناردو دي كابريو.. فما هي قصة الأوسيدج، وكيف تحول عهد الثراء والرفاه الذي عرفه الهنود إلى عهد إرهاب؟

حين عرض لأول مرة في مهرجان «كان السينمائي الدولي» وقف الحضور يصفقون له مدة 9 دقائق، وهذه شهادة اعتراف بالتفوق والتميز لا ينالها إلا القلة من الأفلام خصوصاً في المهرجانات الكبرى، لكن السؤال الذي يطرحه كل من يشاهد الفيلم: ألم يخش مارتن سكورسيزي من غضب هوليوود وحرمانه من التقدير والتكريم أو الجوائز باختياره هذه القضية تحديداً لتقديمها للعالم اليوم؟ قصة لا بد أن ترتبط بشكل مباشر بالسياسة التي تتبعها أمريكا، بمعنى «الأصليين» وحق الأرض والشعب وكيف انتقل «الأمريكي الأبيض» كما كانوا يسمونه من خادم وعامل وسائق لدى الهندي إلى صاحب أرض ومالك ومستثمر وثري؟ والجواب باختصار أن هذا المخرج لم يخش يوماً أن يخسر حرباً خاضها بفكره وصناعته السينمائية ضد أمريكا، ولعل المثل الأكثر فجاجة كان «عصابات نيويورك» عام 2002، ليأتي اليوم فيلم «قتلة زهرة القمر» ليقدم حقيقة أصعب خصوصاً أنه يصادف عرضه في الصالات زمن اشتعال حرب غزة.

البطولة الرئيسية

القصة لا يمكن اختصارها بفكرة أو بضع كلمات، الشخصيات كثيرة وإن كانت البطولة الرئيسية للثلاثي الرائع روبرت دي نيرو، ليوناردو دي كابريو وليلي جلادستون؛ صور من الماضي يبدأها المخرج بلقطات بالأبيض والأسود عن شعب الأوسيدج الثري، المستمتع بالحياة فمنهم من يقود طائرته ومنهم من يتباهى بأفخم السيارات ويقيمون الاحتفالات والنساء اللواتي كن يتزين بالحلي.. وينتقل سكورسيزي بالصورة من الأبيض والأسود إلى الألوان في نفس المشهد ونفس اللقطة ومع تنقل الكاميرا داخل مقطورة قطار يحمل إرنست العائد من الحرب إلى مزرعة عمه..

ويليام هيل (روبرت دي نيرو) الذي يلقب نفسه ب«ملك تلال أوسيدج» ويطلب من ابن أخيه إرنست بوركهات (ليوناردو دي كابريو) مناداته بالملك، يملك مزرعة كبيرة، كيف حصل عليها؟ رويداً رويداً تكتشف أن هيل جمع ثروته الضخمة من خلال استغلاله لجيرانه وأصدقائه من الهنود أو الملقبين بال «أصليين»، يدفع لأحدهم ثمن التأمين على حياته ثم يرسل له من يقتله فيقبض الأموال مضاعفة، ولا يتوانى عن استغلال ولديّ أخيه أيضاً، فيتزوج أحدهما من امرأة من الأوسيدج ثم تتوفى دون أن يعلم الناس السبب الحقيقي وراء وفاتها هكذا يحصل على ميراثها، وهكذا أصبح هيل مالك مزرعة وأسطورة له شبكة قوية من العلاقات مع رجال السياسة في أوكلاهوما والمناطق المجاورة. يسرد مجموعة أسماء لأشخاص يتوفون فجأة بجرائم قتل لا يعلم أحد من يقف وراءها ولا يُفتح تحقيق لمعرفة هوية القاتل، نحو ٣٠ شخصاً قتلوا بظروف غامضة، و«قتلة زهرة القمر» يكشف جانباً من تلك الجرائم وأسبابها الحقيقية.

ثقافة الغرب الأمريكي

الفيلم يقدم مفهوماً عن ثقافة شعب الغرب الأمريكي، وكأنه أرادها قراءة للحاضر من نافذة التاريخ، أحداث جرت قبل 100 عام وكأن شيئاً لم يتغير باختلاف طبيعة وأسماء الشعوب، «الرجل الأبيض» بنى مجده على أنقاض الآخرين، نشر الفساد والعنصرية والجريمة كي يسرق المال والسلطة والنجاح ويبقى هو المسيطر والمتحكم. عبارات وأسئلة تبدو بسيطة تمر خلال الأحداث، لكنها تحمل الكثير من المعاني وأعمقها، مثل قول إرنست بوركهارت «هل ترى الذئاب في هذه الصورة»؟ عبارة يقرأها في كتاب للأطفال، والذئاب لا تظهر أبداً في الفيلم لكنها موجودة بالمعنى والمضمون، من خلال شخصيات تفترس الأبرياء الذين يشبهون النعاج.. وفي بداية الفيلم يسأل إرنست الهندي الذي يقلّه من محطة القطار إلى مسكن عمه ويليام هيل: «لمن هذه الأرض؟» فيجيبه الهندي «إنها أرضي»، فتشعر منذ البداية بأن الرسالة واضحة، وأن تلك الأرض (أي أمريكا) هي للأصليين بالأساس، قبل أن يسلبها منهم «البيض»، سرقة واضحة وفجاجة في ارتكاب الجرائم ووقاحة في تزييف الحقائق. إرنست يتعلم الكثير من عمه الداهية، وشقيقه بايرون (سكوت شيبرد) ينفذ كل مخططات عمه ويعيث في المدينة فساداً.

تطور الأحداث

يبدأ إرنست العمل كسائق لأثرياء أوسيدج، الأمر الذي يقوده إلى التعامل مع مولي (ليلي جلادستون)، الشابة الحسناء ابنة إحدى أغنى العائلات هناك، مالكة لحقول نفط. يقع إرنست في حب مولي فيتزوجان، لكنها سريعاً تبدأ في فقدان شقيقاتها ووالدتها الواحدة تلو الأخرى، آنا (كارا جايد مايرز)، المتزوجة من شقيق إرنست بايرون، وأخت ثانية تموت بسبب ما يسمى «مرض الهزال»، والثالثة ريتا تموت وزوجها بانفجار في منزلهما.. بينما تكتشف مولي أنها تعاني مرض السكر بفعل الوراثة، فيقنعها زوجها بأنها ستفقد حياتها إذا لم يعطها حقن الأنسولين التي لم يكن وقتها قد حصل عليها سوى خمسة أشخاص حول العالم وهي واحدة منهم، وذلك «بفضل» العم هيل؛ ورغم حب إرنست لزوجته، إلا أنه يطيع عمه بشكل أعمى ويوافق على حقن مولي بمادة تخدرها وتتسبب رويداً رويداً في موتها، لكن مفاجأة ما تقلب الأحداث رأساً على عقب.

الشخصيات في الفيلم كثيرة وغنية، منها جيسي بليمونز الذي يجسد دور عميل لمجلس التحقيق الذي سيأتي مع فريق للتحقيق في جرائم قتل أوسيدج، ومعه جون ليثجو وبريندان فريزر كمحامين متعارضين في القضية، وجيسون إيزبل الذي لعب دور بيل سميث زوج شقيقة مولي.

إدارة اللعبة

ينتابك إحساس بأن سكورسيزي استخدم هذه القصة الحقيقية المرعبة ليجيب عن سؤال: كيف وصلت أمريكا إلى ما وصلت إليه اليوم؟ وكيف تدار اللعبة في كواليس السياسة؟ كيف تكونت الثروات بوسائل العنف والقتل والاحتيال المؤدي إلى «الاحتلال»؟ العنصرية المبطنة وعدم المساواة المتحكم في كل شيء. لا يجوز أن نغفل حق من قام بالتصوير السينمائي رودريجو برييتو المبدع في التقاط المشاهد في مساحات شاسعة، خصوصاً مشهد الختام المأخوذ من فوق، حيث تتسع الصورة شيئاً فشيئاً وتتسع معها دائرة الناس بلباسهم التقليدي والألوان المبهجة الرائعة. ناهيك طبعاً عن الإضاءة والتركيز على الملامح والتصوير عن قرب في مشاهد تضيف إلى اللقطة إحساساً وتأثيراً، والماكياج والملابس والديكور وأماكن التصوير.

لوحات منافسة

بالنسبة للأداء، فأقل ما يقال أنك تجد نفسك أمام لوحات يتنافس فيها دي نيرو ودي كابريو ويتكاملان، كيف يبدو دي كابريو مطيعاً لعمه، كأنه طفل منساق بلا إرادة، حركة فمه وطريقة كلامه مختلفة تماماً عن كل أدواره السابقة؛ وكيف يخفي دي نيرو جبروت وخبث ودهاء ويليام هيل خلف مظهر الطيبة ورجل الأعمال الذي يقود الناس موهماً إياهم بأنه يعمل لخيرهم.. وليلي جلادستون الواثقة الهادئة المعبّرة بصمتها ونظراتها.

[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/323dp3j5

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"