د. حميد مجول النعيمي *
إعجاز «الإسراء والمعراج» يكمن في تفرّد سيدنا رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، بمواجهتها والتيقن من آياتها الإعجازية الكثيرة بتحدٍ اجتماعي عظيم ما لبث أن عمّ الناس كلهم، ولكن بعد عناءٍ ونصب ليسا قليلين أو هيّنين على جسم رسول الله ونفسه معاً. وبمرور الزمن، صار التحدي علمياً وتطبيقياً (بعد أن رسخ الإيمان بالمعجزة ومصداقيتها اجتماعياً ونفسياً وروحياً) حتى قال البعض: (أثبتْ) هذه المعجزة بالعلم نؤمن بها، وإلا ….! وما تبقى في الجملة واضح كما أظن، وما دروا أن عظمة هذه المعجزة تجعل من القوانين المكتشفة دونها من حيث التأثير. لهذا جاء هذا المقال لإثبات خارقية المعجزة لقوانين الفيزياء وظواهر الباراسايكولوجي معاً، وليس لإثباتها بهما سوياً! وهذا المنهج قد (يثبط) من همة العلميين التجريبيين الذين لا يؤمنون إلا بالتجريب في البرهنة على صحة فرضية ما أو نظرية أو حتى قانون، إذ إن هذا المنهج التجريبي مقصور على إدراك ما جاوز القوانين التجريبية نفسها فكيف نحكم بالجزء التجريبي على الكل، وبالأدنى على الأعلى، وبالدون القليل على الفوق الكثير؟
وبلغة العلم نستطيع القول مثلاً: لا يمكن الحكم بالهندسة (الإقليدية) على نظم الهندسة (الفضائية) بتطابق تام وتجانس محكم دائماً، فهناك ثغرات واختلافات كثيرة تمنع ذلك بسبب (نسبية) المفاهيم والمعايير القياسية في الأرض عنها في السماء كما في (الطول، الوزن، الزمن، المكان..)، وليس كل ما يحدث في الأرض يمكن نقله إلى السماء تقليدياً من غير إعجاز. ونقصد بالإعجاز هنا (خرق) القوانين الطبيعية المعروفة أو السائدة، وقد يكون الخرق بموجب قانون (اللاقانون) لأنه فوق إدراك البشر الأسوياء والذين يتميزون بمهارة الإدراك فوق الحسي، من أي نوع كان بإطار ظاهرية الباراسايكولوجي وخارقيته سواء بسواء حتى الآن.
الإسراء، أفقياً، فوق سطح الأرض وضمن أجوائها وجاذبيتها، هكذا نفهم عن اللغة أصلاً بقرينة العلم اقتراناً، فاللغة من غير علم تبعدنا عن منهجنا.
والمعراج ، رأسياً، من على سطح الأرض وعبر أجوائها إلى جوف السماوات حتى ( آخر) ما يأذن به الله عند (سدرة المنتهى)، مما لا نعلم مقابله في علوم الفيزياء الفلكية سوى حافة الكون. أما المسافة الكونية من الأرض حتى أبعد نقطة في الكون التي قدرها العالم هابل بما يعدل (12.5× 910) سنة ضوئية ومنهم من يذكرها (12×910) سنة ضوئية أو أكثر (السنة الضوئية = 9.45× 1210كم)، فإنها ليست هدفاً بنفسه، لأن ( المعراج) قد يصير أبعد وقد يصبح أقرب من هذا التقدير، فكل ما يعرج في السماء وإلى السماء له حدود يقف عندها بمشيئة الله تعالى. لهذا فإن تقدير هابل المعمول به (الآن) ومتغيراته المستقبلية بحكم تطور (العلم) لا تُغيّر من مفهوم ( المعراج) شيئاً ولا تؤثر فيه في الواقع، إلا أن الإنسان العادي على الأرض لا يرى بعينه المجردة إلا ما يسمى في العلوم الفلكية (القبة السماوية Celestial Sphere) وما تحتويه من كواكب ونجوم ومجرات ….الخ، والتي يرتبط بعضها ببعض بقوانين فيزيائية فلكية معروفة كقانون الجذب العام لنيوتن في العلاقة بين الكتلة والمسافة وهو أبسطها معرفة بين المتعلمين. (كل كتلة في الكون تجذب أية كتلة أخرى بقوة تتناسب طردياً مع حاصل ضرب الكتلتين، وعكسياً مع مربع البعد بين مركزيهما)، وهو ناتج القانون الثالث لنيوتن في الفعل ورد فعل: (لكل فعل هناك دائماً رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه ويشترك معه في خط الفعل) الذي استنبط من العلاقة بين الشمس والكواكب وأقمارها.
أما العلاقة (الفلسفية – الحكمية) بين الإسراء والمعراج، فهي علاقة تدرج من خرق المعجزة لما هو معروف فيزيائياً، إلى خرقها لما هو غير معروف على وجه الدقة والكمال، فالسير على الأرض أو التحليق في أجوائها يمكن إخضاعه لقوانين الحركة والسرعة والطاقة، وأما التحليق في فضاء الكون فإنه (قد) يخضع (لقوانين أخرى) مضافة فضلاً عن القوانين المذكورة. و(القوانين الأخرى) هذه قد تكون معروفة الآن، وقد تكون مجهولة، وسيعلمها أو يكشف عنها الإنسان، وكلما ازداد القانون بعداً أو تعقيداً زادت خارقية المعجزة له درجات، وأي (توافق) بينهما لا يزيل عنها صفة الإعجاز كلياً أو جزئياً وهو الأرجح، لأن (التوافق الجزئي) موجود في كثير من العلوم إزاء المعجزات، ولا يقلل هذا التوافق من شأن المعجزة، إلا أنه يدفع من شأن العلم باقترابه من دلالات المعجزة وآليتها. من هنا نقول: نبدأ بالإيمان بالمعجزة وننتهي بالحكم على العلم، وليس العكس؛ لأن الإيمان بالعلم على أساس، أو بهدف، الحكم على المعجزة لا يوفر الحد الأدنى من (الموضوعية) إزاء مفهوم الخارقية في المعجزة، بمعنى تجاوز المألوف والمتعارف عليه من القوانين القابلة للتطوير والتغيير بشرياً.
إذن، فهم أسبقية الإسراء في التحقق، مجازاً وافتراضاً، يمهد السبيل لفهم أسبقية المعراج في الإعجاز حقيقة، إذ هما معجزتان متكاملتان بمنظور من الإيمان، لا الفيزياء الحديثة والفيزياء الفلكية والعلوم النفسية أو الفلسفية. كما أنهما لا تخضعان لقوانينهما وإن توافقا جزئياً معهما في بعض الحلقات التنفيذية. وإن معجزة (الإسراء والمعراج) معاً: حدثت لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وحده، أي لم يشهدها معه جمع من المؤمنين (من الأصحاب والحواريين مثلاً)، وخرقت له فيها قوانين السماء، ذلك أنه صلى الله عليه وسلم هو البشر الوحيد الذي أسرى به الله سبحانه وتعالى، وهو البشر الوحيد الذي فتحت له أبواب السماء حتى وصل إلى سدرة المنتهى بالجسد والروح معاً (معجزة القرآن الكريم - محمد متولي الشعراوي ص- 234).
يقول الله تعالى في الآية الأولى من سورة الإسراء 17: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، ثم ينتقل سبحانه وتعالى إلى الرسول النبي (موسى) فيقول الله جل جلاله في الآية الثانية ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا﴾، إذ إن هذه الانتقالة ذات مغزى فلسفي عميق، فلقد ترك الله تعالى شرح (الإسراء) و(الآيات) التي نسبها الله تعالى لنفسه (بوصفها معجزات للبشر) لرسوله الكريم وهي كثيرة ومتنوعة، عبادية مباشرة، وتبشيرية وتحذيرية، وعلائقية تقابلية مع الرسل والأنبياء الذين سبقوه، ووصفية لبعض ما حصل ويحصل لأناس وأقوام من جراء حسناتهم وسيئاتهم، ليتوثق الناس من خارقية الإسراء والمعراج بشيء من العنت والمعاناة، وصولاً إلى التصديق فالإيمان الراسخ من غير جدل أو جدال!
في الآية الأولى نجد حصر إنجاز الإسراء بالله سبحانه بقوله (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ)، لذا فإنه (أمر) ليس معجزاً عند الله لقدرته تعالى، لكنه أكبر من معجزة عند البشر لخارقيتها المذهلة، ثم تحدثت الآية عن المسافة فحصرتها بين (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)، أي بين مكة والقدس. أما (الآيات) بمعنى ما يراه الرسول من معجزات تجاوز قدرات البشر على التحليل فإنها في السماوات، بل في البعد (اللانهائي) بعد السماوات وفوقها، قبل نهاية مسافة (هابل الفلكية) أو بعدها.. أي أن السماوات السبع ليست هي الكون كله، وهذا صحيح ومتفق عليه في العلم القرآني والعلم الوضعي (الفلك والفيزياء الفلكية)، إذ ورد في الصحيح! (ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله عز وجل) أي ما بعد السماوات السبع.
* مدير جامعة الشارقة رئيس الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك