د. حميد مجول النعيمي *
تعددت روايات الإسراء من حيث علاقتها بجسد رسول الله، وروحه، صلّى الله عليه وسلم، ومن الناحية الموضوعية والمنطقية يمكن إجمال فحواها، حسب تبلور مواقف المسلمين و/أو المشركين منها، لعلاقة ذلك بمنهجنا هنا كما يلي: نفي الإسراء والمعراج بالجسد والروح، وتكذيب خبره: تولى ترويجه المشركون لمقايسته مع الوضع الطبيعي لقطع المسافة بمدة شهر للذهاب، وشهر للإياب، وأصاب كثيراً من المسلمين شك في صحة نقل الخبر، وليس في مصدره، إلا أبا بكر رضي الله عنه، الذي صدّقه تماماً وفي أول توثقة بأن رسول الله قال ذلك.
بالروح فقط: بقبول هذا النبأ بتحفظ وتأويل على أنه حلم أو رؤيا صادقة، ولم يقبل على أنه فصل الجسد عن الروح فقط.
بالجسد فقط: لم يطرح مثل هذا الاحتمال، ولم يروَ عنه شيء، لتلازم الجسد والروح في النص القرآني أصلاً، وفي التنفيذ الإعجازي ثانياً، وأن الرحلة بالجسد أصعب تصديقاً من الرحلة بالروح فقط.
قبول الإسراء والمعراج بالروح والجسد معاً: تأكيد بعد ظهور الأدلة المادية، النقلية والعقلية، معاً، وهو ما يعنينا هنا في المتابعة التحليلية، لأن الأدلة الظاهرة أسكتت المشككين والمشركين معاً، إذ تتلخص بوصف رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، لبيت المقدس (بدقة وشمول)، فضلاً عن إخباره قريشاً عن قوافل تعود لها تعرضت لبعض المتاعب في الطريق، فجاء التوثق منها مطابقاً لما أفاده رسول الله تماماً. ومن ثم صار مؤكداً (تصديق) ما حدث في المعراج، كما في سورة النجم (53) ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ﴾، لقد رأى من آياته الكبرى، لأن تصديق ما حصل في الإسراء أصبح عاملاً ممهداً لتصديق المعراج، وتقبّل فروض العبادات، وأولاها وأهمها الصلوات الخمس بعد العودة مباشرة.
نستأذن (العقل والإيمان) معاً، فنطرح الافتراضات الآتية بتصور موضوعيتها، ومن ثم تأكيد خارقية المعجزة علمياً: إن انتقال جسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وروحه، إلى بيت المقدس، وإلى علياء السماء يتطلب تكيفاً بيولوجياً وفيزيائياً بمستويين غير منفصلين بمعاير البيولوجيا والفيزياء الأرضية، التي تجعل من هذا الانتقال طبيعة جديدة للجسم البشري، إذ إن أجسام الملائكة مخلوقة لأجواء غير التي يتعامل معها البشر، وببيئة من غير التي خلق الله تعالى عليها البشر، ولكن لا يصح افتراض وجود أشياء خارجية توافرت لرسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فتكيّف بها، لأنه لم يرد لها ذكر في التفسير والروايات. وفي الوقت نفسه حصل ما يستثني التأمل في هذا الصدد عند ابن كثير: قال البخاري عن أنس بن مالك قال: «كان أبو ذر يحدث رسول الله قال: فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وأيماناً فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا...»، ترى لماذا أنجز جبريل عليه السلام هذه المهمة؟ ثم نقرأ أيضاً عن ابن كثير: قال الإمام البخاري عن أنس بن مالك يقول: «ليلة أسري برسول الله من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوصي إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة فلم يرهم، حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلا يكلموه حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبقه حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله بماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشو إيماناً وحكمة فحشاه صدره ولغاديده (يعني عروق حلقه) ثم أطبقه، ثم عرج به إلى السماء الدنيا ...».
ترى كم هي متوافقة مع ما سبق، ولماذا فعل ذلك جبريل؟ لو دققنا النظر في أواخر الفقرتين لوجدناهما واحدة (فعرج بي إلى السماء الدنيا)، و(ثم عرج به إلى السماء الدنيا)، أليس بعملية (شق الجوف البطني – الصدري) وغسله وحشوه بالحكمة والإيمان علاقة (بطبيعة) الرحلة (الكونية)؟ لا نتردد مطلقاً، فنقول: نعم، لها كل العلاقة، فمن الناحية البيولوجية تتضمن (تحويراً) لبنية الجسم البشري ليلائم طبيعة المحيط الجديد، وبخاصة ما يتعلق بتعذر (استنشاق الأوكسجين وتوقف عمليات الأيض Metabolism معاً.
وفيزيائياً: مساعدته على التكيف، أو (خرق) قوانين الفيزياء المعروفة، وبخاصة ما يتعلق منها بنظرية اينشتاين النسبية، وكما يأتي قدر ما يهمنا منها هنا: (لا يمكن لأية مادة أن تسير بسرعة الضوء، وإن سرعة الضوء هي أكبر السرعات في الطبيعة)، ولما كان جسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (مادة)، لذا فإن خرق هذا القانون - عند تقدير سرعة الجسم بسرعة الضوء - يتطلب تحويراً لما ينقله من جو المادة إلى الجو اللامادي بسير الجسم دون سرعة الضوء، ومن دون أن يتمزق، أو بتثبيت أثر القانون نفسه بعزل الجسم عن تأثيره.
(إذا تحرك جسم بسرعة عالية جداً، فإن كتلته تتغير، أي أن الكتلة هي كمية نسبية وأن هذه الكمية تزداد بازدياد سرعة الجسم)، ولما كان جسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينتقل على (براق) قد تصل سرعته لسرعة الضوء، فإن كتلة جسم رسول الله ستصل إلى (مالا نهاية له)، وهذا مستحيل في الواقع وضمن الإعجاز نفسه، لأنه حسب الروايات كافة احتفظ رسول الله بكامل شخصيته النفسية والبدنية (وبكامل كتلته الجسمية) لذا فإن (التوحيد الذي جرى باغتسال الجوف، يعني صورة من التكيف الفيزيائي لمواجهة هذه المشكلة من وجهة نظر مقبولة كما نعتقد. وما بعكسه أن الإسراء والمعراج بالروح فقط فيكون أكثر قبولاً).
(إن أي تغيّر في طاقة الجسم يقابله تغير في كتلته، أي أن كتلة الجسم هي مقياس لما يحتويه الجسم من طاقة)، وقد وضع اينشتاين العلاقة بين الطاقة والكتلة حسب المعادلة الآتية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء (E = mc2).
وبزيادة كتلة الجسم وثبوت سرعته تزداد طاقته، وبزيادة سرعة الجسم وثبوت كتلته تزداد طاقته.
ولما كان زخم أي جسم يساوي: كتلته × سرعته، ولأن (كتلة) جسم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم (ثابتة) وسرعته عالية إلا أنها (مجهولة) ونفترضها دون سرعة الضوء، فإن الزخم المتولد عن حركته الهائلة يكون عالياً جداً لا يطيقه جسم (بشر)، مما يترتب عليه وجوب (تحور) فيزيائي يجعل من هذا الزخم ضمن تحمّل الجسم نفسه لذلك حصل ما فعله جبريل الأمين بهذا الاتجاه في جوف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعكسه أيضاً يصير الإسراء والمعراج بالروح أكثر قبولاً.
ليس من الموضوعية القول هنا إننا فسّرنا (المعجزة بمعجزة) أخرى، إلا أنه من الموضوعية الصحيحة أن نقول إننا نعد المعجزة التي قام بها جبريل إزاء (جسم) رسول الله، صلى الله عليه وسلم، (كوسيلة) لتيسير تحقق المعجزة (الأم)، وليس تفسيراً لها محدودة الغرض بيولوجياً وفيزيائياً بالتكيف الفضائي والكوني.
* مدير جامعة الشارقة رئيس الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك